في الأثرة والإيثار
يبدو الإنسان، بُعيد ولادته، كائنًا أنانيًّا بالكامل، ليس بالمعنى الأخلاقي للأنانية، بل بالمعنى النفسي، بمعنى أنّه يتصرّف طبقًا لغرائزه ورغباته فقط، بدون أن يهتم أو ينهم برغبات الآخرين ومشاعرهم، أو يأخذها في الحسبان.
وقد اختلف الفلاسفة حول مدى كون الإنسان كائنًا أنانيًّا (أي أنّ الدافع الأول والأساسي لأفعاله هو "المصلحة الذاتية"، كما يقول جيرمي بنتام وجون ستيوارت ميل ونيتشه وآخرون)، أو كائنًا غيريًّا، أي أنّ لديه توّجهًا أصيلًا للتعاطف مع الآخرين ومساعدتهم حتى لو اقتضى ذلك منه تقديم تضحيةٍ ما، كما يقول ديفيد هيوم وجان جاك روسو وآدم سميث، وآخرون. ولم تحسم الأبحاث التجريبية المعاصرة هذا الموضوع، رغم أنّها قدّمت نتائج معرفيةً مهمةً، في هذا الخصوص.
تذكرت هذه المسائل وغيرها، بعدما لاحظت أنْ ابني ريمي (ثمانية أعوامٍ) قد أصبح، في الأسابيع الأخيرة، يفكّر في رغباتي ومشاعري ويأخذها ويأخذني في الحسبان على نحوٍ مفاجئٍ. فإذا عبّرت عن تردّدي في أن ألعب معه لعبةً ما، لأنها متعِبة، أو لأنني بدأت أشعر بالتعب، أصبح يتردّد في الإلحاح عليّ، ويبدو أنّه يعيش حينها حالة صراعٍ بين رغبته في هذه اللعبة ورغبته في مراعاتي وعدم إزعاجي. فلكونه وحيدنا المدلَّل، ولكونه طفلًا، كان، حتى وقتٍ قريبٍ، متمحورًا أو متمركزًا حول نفسه، ويركز دائمًا على التعبير عن رغباته، بدون أن يكترث (كثيرًا) بنا أو برغباتنا في هذا الخصوص.
يبدو أنّ مزيجًا من الإثرة والإيثار، من الأنانية والغيرية، أمرٌ ضروريٌّ للحياة الاجتماعية والإنسانية عمومًا
هذا التحوّل في شخصية ريمي سرّني بقدر ما أزعجني وأربكني. فقد سرّني لأنّه يعني أنّ شخصيته بدأت تنضج، وضميره بدأ يتشكّل. لكني شعرت ببعض الانزعاج لأنّني أعلم أنّ قانون الوجود والطبيعة يقتضي ألا يحصل الإنسان على كلّ ما يرغب فيه ويريده، بل لا بدّ، دائمًا وعمومًا، من التضحية ببعض رغباتنا لتحقيق رغباتٍ أخرى. أما شعوري بالارتباك فناتجٌ عن أنّني ما عدت واثقًا من الطريقة المناسبة للتعامل معه. فأنا أخشى أن يفضي إعلاني عن رغباتي إلى قمع ريمي لرغباته، بسبب أنه أصبح ممن "يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ".
التعامل مع الغيريين، أصحاب الإيثار، ليس أقلّ صعوبةً من التعامل مع الأنانيين، ذوي الأثرة. ويبدو أنّ مزيجًا من الإثرة والإيثار، من الأنانية والغيرية، أمرٌ ضروريٌّ للحياة الاجتماعية والإنسانية عمومًا. فلا يمكن لتلك الحياة أن تستمر، لا مع الأنانية الخالصة، ولا مع الغيرية الخالصة. وسبق أن أشرت في نصٍّ سابقٍ إلى أنّ الشرّ المطلق لا يمكن أن يوجد في أيّ جماعةٍ إنسانيةٍ. فكما ذكر أفلاطون، في جمهوريته، حتى عصابة الأشرار تحتاج إلى وجود حدٍّ أدنى من الخير والتعاون بين أفرادها، لتستطيع الاستمرار والقيام بعملها.
وكذلك هو الحال بين "الأخيار"، فبدون حدٍّ أدنى من الأنانية (النفسية) أو الأثرة وتفضيل الذات يصعب وجود حياة اجتماعيةٍ أو إنسانيةٍ عمومًا. ولنتخيًّل شخصين يودّان أن يقوما برحلةٍ ما أو أن يأكلا وجبةٍ ما معًا، على سبيل المثال، وكلّ شخصٍ أراد أن يتم الأمر وفقًا لرغبات أو تفضيلات الشخص الآخر. ففي مثل هذه الحالة، لن يمكنهما القيام بأي شيءٍ، على الأرجح، لأنّ كلّ شخصٍ يودّ أن يحقّق رغبات أو تفضيلات الآخر. على هذا الأساس، قال عددٌ من الفلاسفة إنّ الغيرية المطلقة غير مناسبةٍ، وشدَّدت البيولوجيا التطوّرية على استحالة وجود مثل تلك الغيرية، لا على مستوى الجماعات ولا على مستوى الأفراد. وحتى لو وجدت مثل تلك الغيرية عند مثل هؤلاء لانقرضوا، وانقرضت، في كلّ الأحوال.
الشرير في سياقٍ ما يمكن أن يكون خيّرًا في سياقٍ آخر، والعكس صحيحٌ
من منظورٍ فلسفيٍّ ومعرفيٍّ، ينبغي الابتعاد عن تصنيف الناس على أنهم "أخيار" أو أشرار"، فقد بيّن لنا التاريخ والحاضر، أنّ الشرير في سياقٍ ما يمكن أن يكون خيّرًا في سياقٍ آخر، والعكس صحيحٌ. وكم من طاغيةٍ، على سبيل المثال، كان عاشقًا مرهف الحس أو أبًا رؤوفًا أو صديقًا وفيًّا. كما أنّ سمات الأثرة والإيثار، الأنانية والغيرية، قد تختلف عند الشخص نفسه، وفقًا للسياقات المختلفة. فعلى سبيل المثال، أعرف شخصًا مستعدًا لأن يضحي بالكثير من الوقت والجهد والمال في مساعدة أصدقائه أو حتى من يرى أنّه يحتاج ويستحق المساعدة، لكنه، في زيارته الأخيرة لي، وعلى الرغم من أنّنا كنّا نتشارك كلّ الوجبات والمأكولات والمشروبات، فقد كان يتحوُّل إلى أنانيٍّ من الطراز الأوَّل والرفيع والثخين، عندما يتعلق الأمر بالعصائر وبعض أنواع الفواكه التي يحبّها. والحال ذاته، مع ريمي، فرغم أنّه أصبح يظهر اهتمامًا وغيريةً ورغبةً في المشاركة والاشتراكية معي، فإنه ينقلب إلى رأسماليٍّ إمبرياليٍّ عتيدٍ، عندما يتعلق الأمر بقطعة شوكولا أو أكلةٍ طيبةٍ. ويبدو أنّ "الجينات الحلبية" غلَّابة، أحيانًا.
في حياة كلّ منّا أشخاصٌ مختلفون، بعضهم يقترب من قطب الأثرة والأنانية، النفسية على الأقل، وبعضهم يقترب من قطب الإيثار والغيرية. ويبدو أنّ مهمتنا، أحيانًا، هي تحقيق نوع من التوازن الإيجابي مع الطرفين أو بينهما، بحيث نسعى للحدّ من حضور الأنا المهيمنة للطرف الأول، ومراعاة وإحضار واستحضار الأنا المغيَّبة للطرف الثاني. أمّا التوازن السلبي فيحدث حين يلتقي الطرفان المذكوران، فيفرض الطرف الأول أناه ورغباته، ويغيِّب الآخر أناه ورغباته، ويشبه اللقاء حينها اللقاء بين ساديٍّ ومازوشيٍّ، فالأول يستلذ بتعذيب الثاني، والثاني يستلذ بتعذيب الأوَّل له.