في الحق في أن نكون على خطأ
"أخطائهم اللغوية كثيرة وكبيرة"، كانت هذه إجابتي عن سؤال صديقة لي، كانت تحضر معي أمسية شعرية في أحد مدرجات جامعة تشرين في اللاذقية، عن رأيي في الشعر الذي كنا نستمع إليه في تلك الأمسية. وكانت إجابتي كتابيةً، لأننا كنّا حريصين على ألا نصدر أصواتاً تشوّش على الأمسية. بعد لحظات، سمعت شخصاً يجلس خلفي يقول لي هامساً: "أخطاؤهم، وليس أخطائهم". أدركت سريعاً طرافة الموقف الذي أوقعت نفسي فيه، فاكتفيت بشكر الشخص على ملاحظته المحقة، مع تبادل لابتسامات أراد كل منا أن تكون ذات مغزى.
الإمكانية المبدئية الدائمة لوقوعنا في الخطأ "اللغوي" لا تعني نفي مشروعية نقدنا لأخطاء الآخرين، بل تعني ضرورة عدم استسهال تحويل الأخطاء "اللغوية" إلى خطايا تبدو أشبه بذنوب لا تغتفر. فلمثل هذه الصرامة اللغوية، غير المسوّغة غالباً، نتائج سلبية على عمليات التواصل اللغوي وعلى تفاعلنا مع الأخطاء. فهي تحدّ من إقدام كثيرين على التعبير عن أنفسهم (بحرية وارتياح) في المجال العام، وتمنع مناقشة أخطائنا أو أخطاء الآخرين (اللغوية) وتجعلها أمراً محفوفاً بالمخاطر، غالباً. وقد يصل الخوف من ارتكاب الخطأ اللغوي إلى درجة الرهاب الذي يمنعنا من الاعتراف بأخطائنا، ويدفعنا إلى إنكار ارتكابنا للأخطاء، حتى بعد وضوح ارتكابنا لها. وهذا ما يبدو أنه قد حصل في برنامج "أمير الشعراء" أخيراً، في خصوص ضبط همزة "سخاء ذكريات" أحد الشعراء.
وقد حصل أمر مشابه منذ أسابيع قليلة، في جلسة لإحدى المؤسسات الثقافية العربية. ففي تلك الجلسة، أشار أحد الحاضرين إلى ضرورة تدقيق النصوص العربية التي توزعها المؤسسة، لأن نص المحاضرة الوحيدة التي حضرها، حتى ذلك الوقت، كان غير مقبول على الإطلاق، لوجود عشرات الأخطاء اللغوية فيه. لم يكن ذلك الشخص، يعلم أنّ الباحثة صاحبة النص موجودة في تلك الجلسة، لكنه علم بذلك سريعاً، بعدما عبّرت عن دهشتها وانزعاجها من الملاحظة، ورأت أنها غير دقيقة ولا منصفة أو موضوعية على الإطلاق. واعتبرت أن تلك الملاحظة مسيئة لها، لأنها تعني أنها لا تملك الكفاءة اللغوية المطلوبة لتكون باحثة في مجالها، وهي الحاصلة على الماجستير في الفلسفة. هيمن بعض الوجوم والحرج والارتباك على أجواء الجلسة لفترة قصيرة، قبل أن يُتَّفَق على بحث المسألة لاحقاً بين المعنيين في الأمر. لكن الباحثة أعادت فتح الموضوع قبل نهاية الجلسة، وبعيد تلك النهاية، أرسلت صورة عن نصها إلى مجموعة "واتساب" التابعة للمؤسسة المذكورة، وأصرّت على خلوّ نصها من الأخطاء المزعوم وجودها فيه.
قد يصل الخوف من ارتكاب الخطأ اللغوي إلى درجة الرهاب الذي يمنعنا من الاعتراف بأخطائنا، ويدفعنا إلى إنكار ارتكابنا للأخطاء
كان هناك استغراب واستهجان من ذلك الإصرار على إنكار وجود الأخطاء اللغوية المذكورة، وظهر احتمال أن تكون الباحثة غير مدركة، أصلاً، لوجود تلك الأخطاء في نصها، فوضع الشخص المذكور علامات على الأخطاء الموجودة في الصفحة الأولى من ذلك النص، وبلغ عدد تلك الأخطاء حوالى ثمانين خطأً، وكان معظمها يتعلق بهمزات الوصل والفصل، وبالفصل بين واو العطف والاسم المعطوف، أو بين الفاصلة أو النقطة والكلمة الموجودة قبلهما، وبعدم وضع تنوين الفتح، بالإضافة إلى أخطاء نحوية وطباعية أخرى. المذهل والصادم، أنّ الباحثة أصرت على أن الشخص المذكور يتجنى عليها، ودعته، صراحة، إلى مراجعة نفسه والعدول عن هذا السلوك.
لم يكن واضحاً إن كانت الباحثة المذكورة في حالة إنكار نفسي أو معرفي، وقد أشارت باحثة أخرى إلى ضرورة الانتباه إلى أن الماجستير الذي حصلت عليه الباحثة المذكورة لا يتطلب معرفتها أو إتقانها للغة العربية، كذلك فإن تعليم اللغة العربية في مدارس دولة الباحثة وجامعاتها ضعيف جداً عموماً، ويمكن أن يفسر، جزئياً ونسبياً، كثرة الأخطاء اللغوية الموجودة في النص، وعدم إدراك الباحثة لهذه الكثرة أو تلك الأخطاء. بعد ذلك، بدا أنّ المشكلة الأكبر لا تكمن في وجود تلك الأخطاء، بل في عدم القدرة على التعامل معها تعاملاً إيجابياً ومفيداً. فمن "ارتكب" تلك الأخطاء، قد يشعر أو قد يجعله الآخرون يشعر، أنه قد ارتكب خطيئة أو جريمة. ولهذا يتردّد كثيرون في مناقشة تلك المسألة على الملأ، بسبب الحساسيات الكبيرة والكثيرة المحيطة بها.
من المعروف أن القيم الأساسية في الفلسفة هي الحقيقة والخير والجمال، وكانت هناك محاولات كثيرة لإظهار التكامل والتداخل أو حتى التماهي بين تلك القيم. فسقراط قال بوجود وحدة وتماهٍ بين الحقيقة والخير، وآينشتاين وبوانكاريه وهايزنبرغ رأوا أن الحقيقة لا يمكن إلا أن تكون جميلة، وأنّ الجمال إحدى العلامات الدالة على الحقيقة. في المقابل، كانت هناك محاولات لتطبيع العلاقات مع الخطأ والقبح والشر، من منظورات معرفية وأخلاقية/ سياسية.
صحيح أنه ينبغي لنا أن نتعلم من أخطاء غيرنا، لكن التعلم من أخطائنا الخاصة يبقى أمرا ضروريا عموما
فمن المنظور المعرفي، يبدو في أحيان كثيرة أن "الخطأ حقيقة تمّ تجاوزها، والحقيقة خطأٌ لمَّا يتم تجاوزه بعد". ولا يمكن تصوّر وجود حقيقة، فضلاً عن الوصول إليها أو امتلاكها، دون وجود الخطأ وتقبّل الإمكانية المبدئية الدائمة لارتكابه أو حصوله. وعلى هذا الأساس كتب فولتير: "أحبّ الحقيقة، لكن تسامح مع الخطأ". ويعني التسامح، هنا، النظر إلى الخطأ على أنه جزء ضروري ومفيد عموماً من عملية البحث عن الحقيقة، ومن التطّور النفسي والمعرفي للفرد والمجتمع الإنسانيين.
ومن منظور أخلاقي سياسي، إمكانية الخطأ وحتى الخطيئة هي الثمن والشرط الضروريان لأن يكون الإنسان حراً وسيد نفسه. فكما هو حال مفهوم "سيادة الدولة" الذي يعني "حق الدولة في أن تكون على خطأ"، من دون أن يكون هناك شرعية أو مشروعية لأي جهة لمحاكمة تلك الدولة أو محاسبتها والتدخل في شؤونها، فإن سيادة الإنسان الفرد تعني حقه في أن يختار ما يراه مناسباً من منظوره هو، حتى لو أفضى ذلك إلى ارتكابه للأخطاء. وفي حين أنّ هناك دولاً أو سلطات كثيرة قد أساءت استخدام ذلك الحق إلى درجة دفعت شعوباً ومؤسسات إلى سحب ذلك الحق من بعض الدول، فإن هناك إجماعاً أكبر على أهمية تمتّع كل شخص، من حيث المبدأ، بذلك الحق. صحيح أنه ينبغي لنا أن نتعلم من أخطاء غيرنا، لكن التعلم من أخطائنا الخاصة يبقى أمراً ضرورياً عموماً.
لهذه الأسباب ولغيرها، شدّد كثيرون، مع هاري واينبرغر ووليام هيرست، على أن "أعظم حق في العالم هو الحق في أن نكون على خطأ". ولعل الخطأ الأكبر الذي يمكن لنا اقترافه، في كثير من السياقات، يكمن في نفي ذلك الحق أو إنكاره، وفي تحويل الخطأ إلى خطيئة. لكن حتى في هذه الحالة، يمكن للتأمل النظري والممارسة العملية أن يسمحا لنا بالتعلّم من ذلك الخطأ وتجاوزه والإقرار بذلك الحق وتبنيه. ويبدو ذلك الأمر مفيداً وضرورياً في تعاملنا، في المجال العام، مع اللغة العربية.