في تحقّق فكرة صناعة الحياة
عزيز أشيبان
نعي جيّدًا أنّ نمط العيش يختلف من شخصٍ إلى آخر، ويُحدّد حسب، بيئة العيش، الرؤية، القناعات الشخصية، الخلفية الثقافية والحمولة النفسية والذهنية. ويرجى منه (النمط) وضع تصوّرات تتحوّل إلى ممارساتٍ، تعبّد الطريق نحو حياة أفضل زاخرة بالإنجازات الشخصية والمهنية، وضامنة لصحة أفضل على مدى العمر.
من المؤكد أنّ الحياة هبةً من الخالق من أجل العطاء والإعمار وتنزيل قيم الحب والمودة والتعايش، تتمثل في رحلةٍ من الأيام تمرّ بسرعةِ البرق، ويستوجب، في ثناياها، استحضار الوعي العميق بقيمتها من أجل استثمارها على النحو الوجيه والمحمود والفعال. ومن المفارقة، أن نجد شعوبًا تستمتع بالحياة وتنخرط في عيشِ أدق تفاصيلها، بكلِّ جدية وإقبال حدِّ الهوس، بينما نجد شعوبًا أخرى تُقبل على الموتِ والفناء، أو بالأحرى الخلاص، خاضعة لمنطق الانهزامية، ومُعرضة عن حكمة الله في كونه وخلقه. وبغضِّ النظر عن جذور الفوارق أو نوعية الحكامة القائمة، هناك تباين في نوعية النظرة إلى الحياة وثقافة احتضانها والخوض في تفاصيلها.
في الواقع، هناك بعض الشعوب التي تشتهر بارتفاع متوسّط العمر، وتدعو تجربة العيش عندها إلى التدبّر والتأمل وأخذ الدروس والعبر. وهي شعوبٌ تتوّزع على خمس مناطق من بقاع العالم، تُعرف بالمناطق الزرقاء. ونتحدث هنا عن أوكيناوا في اليابان، سردينيا في إيطاليا، إيكاريا في اليونان، نيكويا في كوستاريكا، ولوما ليندا في ولاية كاليفورنيا. يُعمّر سكان هذه المناطق لفترةٍ طويلةٍ ويتمتعون بصحةٍ جيّدة، ويتميّزون بممارساتٍ محلية نوعية، تُحيل على السرّ في ارتفاع متوسط العمر بين سكانها. بطبيعة الحال، يتساءل القارئ عن السرّ، وقد يفكّر عند الوهلة الأولى في نوعية النظام الغذائي المتبع، والتمارين الرياضية، وهو طرح موضوعي ومعقول، غير أنّ هناك ما هو أهم وأنجع، ألّا وهو العلاقات الإنسانية والرفقة، حيث يستأثر فعل اختيار الرفقة بحساسيةٍ قصوى، ويؤسّس للعلاقات الاجتماعية وفق رؤى محلية تَرقى بها إلى ممارسات اعتيادية.
هناك تباين لدى الشعوب في نوعية النظرة إلى الحياة وثقافة احتضانها والخوض في تفاصيلها
في هذه المناطق يمكن الحديث عن هندسةِ الحياة الجميلة والحُبلى بالمعاني والدلالات، حيث لا يُترك شيء للصدفة، بل هناك ممارسات وسلوكيات اجتماعية ينخرط فيها السكان من أجل ضمان عمرٍ طويل وجودة عالية. في تجربة الحياة في منطقة أوكيناوا على سبيل المثال لا الحصر، يقف المرء عند حقائق تستحق التدبّر، إذ يركز السكان على صناعةِ واستدامةِ أواصر اجتماعية قوية تمنح التآزر في أوقاتِ الشدّة، ومشاركة الفرح في أوقات الرخاء. يقوم السكان في أوكيناوا بتشكيل مجموعات صغيرة، تُعرف باسم "موي"، تضم كلّ مجموعة خمسة أشخاص يتم وضعهم منذ سن حديثة جدًا (بعد الولادة) ويقودون رحلة الحياة بعضهم مع بعض حتى بلوغ سن الشيخوخة، ويتقاسمون خلال رحلتهم هذه كلّ شيء. تهدف مجموعة "موي" إلى تأطير وترسيخ قيم التضامن والتلاحم ونشر الطاقة الإيجابية وتحقيق التواصل الفعلي بمعيةِ أنشطةٍ، يُقبل عليها أعضاء المجموعة، وتمنحهم الطاقة والقوة والدعم والاهتمام المتبادل والحبّ والاستشارة.
ترتقي عملية بناء دائرة الأصدقاء والمقرّبين إلى عاملٍ مؤثر في صحة الإنسان وسلامته، إذ إنّ النزوع نحو قضاء الوقت مع الإيجابيين من الناس يُساهم في تحسين الحالة الذهنية والنفسية، ويعين على تجاوز الأزمات وتدبير الشدائد وتجديد العزائم والهمم، ورفع سقف الطموحات، وفتح آفاق الأمل والحيوية والتحفيز. فيما أنّ الوجود مع الأشخاص السلبيين يُحيل على الهدم ويجهز على الصحة النفسية والذهنية، ويُولّد اليأس والإحباط والتذمر، ويسهل واقع الانعزال والانسحاب والفناء.
في المنطقة العربية نعيش وهم التكبّر من خلال الاعتقاد، وأحيانًا الجزم، بأنّنا نزخر بأحسن نسقٍ خاص بالعلاقات الاجتماعية، يتميّز بقوة علاقاته الإنسانية والتكافل والتضامن والبرّ بالوالدين وتنزيه القيم الإنسانية، في حين أنّنا شعوبٌ استقرت فيها "قيم" الهدم والتبخيس والازدراء والإقبال على الموت. حقيقة، يستقر في روح الدين الإسلامي كلّ ما هو جميل وبنّاء، من قيمٍ وتعاليم ووصايا، لكن يبقى واقع التنزيل بعيدًا كلّ البعد عن ماهيةِ مقاصده، حيث نعيش نقيضَ ما نعتقد ونحيا، عكس ما نتوق إليه، وما يزيد الطين بلّة هو وهم الاعتقاد بأنّنا الأفضل، في إعراض تام عن مساءلة الذات والاعتراف بالفشل الذريع والانفتاح على التجارب الإنسانية للشعوب الأخرى.