قواعد "الذلقراطية"... كيف يكون التلاعب والتحكم بالذكاء الشعبي؟
لقد أقنعتنا السياسة العالميّة بوضوحٍ وَجلاء بأنّ الحق للقوة المتسلّطة وليس للشرعية الشعبية المدنية، وبأنّ الحرية مجرّد شعار برّاق مثله مثل حقوق الإنسان والأقليات والمرأة، وبأنّ الدولة القوية، والتي على حق، هي كل دولة استطاعت أن تمتلك الفيتو والسلاح والمال، وبأنّ المبدأ المقدس الذي تؤمن به الغاية تبرر الوسيلة، فلا ضيرَ من استبقاءِ مأساة شعب لعقد من الزمن ما دام ذلك يحقق غايات السياسة المتكسبة من المآسي وصناعة الكوارث واستدامة التعجيز.
ثم ما زاد الطين بلة أن هذا المشهد المؤطّر بالمعلومة المتدفّقة عبرَ وسائل التواصل الاجتماعي، والإعلام المسموع والمقروء والمنظور، تتحكم به جهات يمكن اختصار سياستها بالتدجيل والتدجين؛ فلا الكمّ الغزير يُبلي شرهها للكذب، ولا الكيف يُثني مَلقها عن اتّباع سياسة التزوير والتلاعب بالذكاء الشعبيّ.
ولأن الإنسان بطبعهِ حكواتيا يميلُ إلى المُشافهة وتصديق ما يراه، ولأنّ واقعنا السياسي عَمّق التجهيل الفردي من خلال تطويق منافذ الوعي، فقد خُلِقت حكاية مزوّرة بُغية حَرف الأمّة عن مطالبها، وإشغال العقل بِتوافه القضايا ليتكوّن من ثمَّ إنسان متوحش لا يقرأ! ولعلّه إن صادفَ كتابًا أو مقالًا في طريقه التهمه بغريزته، أو مزّقه بأنيابِ أحكامه المسبقة، أو ركلهُ جاهلًا بما فيه، وربما بعد ذلك تجشأ على ما بقي من أفكار.
لقد أفقرت السياسات العالمية الممنهجة السّاحة السورية من رمزية أي قيادة، وتسبّبت بفقدان الثقة بأيّ قيادي، وحدّدت من المزاج العام، وَعمِلت على توقيت كل مرحلة وحجمها وطبيعة المعالجة أيضًا. ومن ثمّ باتت الأمة السورية بحاجة إلى جرعات مُكثّفة من الأفكار؛ مما يحسن تداوله بين عامة الناس طلباً لإصلاح الفضاء السياسي، وتحصين المطالب الفردية والعامة المحقّة في ظل تهديد حقيقي من جهتين: الجهل والغش الذاتي المتراكم في داخلنا، وهو ما يمكن تسميته بالتدجين، وكذلك من سطوة الإملاء والتزييف الخارجي والذي يمكن وصفه بالتدجيل.
رغم البؤس وذلّ بعض التصرفات وخطأ بعض القيادات وسياسات خاطئة؛ كان الشعب السوري بِعربه وكُرده، وكلّ مكوناته أمة حرية يتسابق العالم ليتعلم منها
لدى اطّلاعي اليومي على ما يجري هنا وهناك، أجدُ أن أكثر ما يلفت انتباهي، مرة بالعيان ومرة بالبيان، سياسة لها جيش غير منظور تمضي بخطىً ثابتة في تشكيك كل شيء من كل شيء! وتبدأ بضرب الرموز. وأكثر ما يتجلّى ذلك وعلى نحوٍ سافر بعد موت ذلك الوجه، حيث تطفو ساحات معاول هدم كل قيادي ويبقى الجميع في قصور فكري وتنابذ وشقاق وعدم وفاق من خلال حرب ضروس تشن على شخصية ما.
بل وصل العته ببعضهم إلى حدّ الثناء على بشار نكاية بالسياسات والأخطاء التي ارتكبتها المعارضة، وغابَ عنهم تقييم أي شخص بمنطق توسيع الموافقات وتضييق دائرة التخوين، وهذا لا يعني سوى بروز قاعدة لا تثق بأحد بل تتعاطف مع رأس الفساد. وهكذا يتم التلاعب بالذكاء الشعبي وتحويل الوجهة وإثارة البأس الداخلي فيقتل الشعب نفسه بنفسه. أعتقد أنه من المذموم البطنة التي تذهب الفطنة ومن أمثلته في الأسطورة الإغريقية، زحل الذي أكل أولاده خوفاً من أن يأخذوا منه عرشه، كذلك الثورة مثل زحل تأكل أبناءها..
وبالعودة هنا إلى عملية قراءة القيادات والشخصيات العامة، فهي ينبغي أن تكون من خلال القواعد الآتية:
1. لا ندّعي فضلاً ليس له.
2. لا نُلصق به إثماً لم يقترفه.
3. هذا القيادي هو بشر مثلنا قد يخطئ وقد يصيب.
4. لدى استعراض سيرة قيادي علينا توخي العدل، فنحصر المثالب والعيوب كما نرصد المزايا والإيجابيات.
5. لا يمكن الحكم على أي شخص تحت تأثير فكر سياسي أو إيديولوجيا معينة.
6. لا يصحّ كتابة أي سيرة بغية إرضاء أهواء ومنافع شخصية أو قومية أو حزبية.
7. التوقف عن إطلاق الأحكام التعميمية التعسفية.
8. الامتناع عن الأُحادية في التفسير والثنائية في التعامل إما معي أو ضدي.
لا بدّ من المصارحة أن سحابة من الحزن علتني حتى ظللت بعض أيام الشهر الفضيل بقتامتها أردت الصمت فخانني قلمي ولم يطاوعني فكري بعد وفاة أ. ميشيل كيلو، حيث راحت الذكريات تردُ وتتوالى على ذهني، كيف تعاملنا مع الشهيد البوطي وكيف تعاملنا مع الشهيد الساروت وكيف تعاملنا مع الشهيدة هفرين خلف، كيف نتعامل مع قامة وطنية مثل المهندس أحمد معاذ الخطيب؟ كيف نتعامل مع قيادات كردية مثل أ. صالح مسلم أو الأستاذ الدار خليل؟
لماذا يتسابق بعض السوريين إلى تشويه أي شيء جميل؟ لماذا يكدّون في نصب الفخاخ بعضهم لبعض، ونسف أي فضيلة عن بعضهم؟ لماذا يجتهدون بالكيد والقهر المتبادل؟ لماذا في كل القضايا الكبرى لا يجتمعون، بل تراهم يتوافقون على الفتن والآثام والشرور؟
إن رجع الصدى أمام هذه الأسئلة يُشعر الإنسان بغربة وجودية تُعادل العدم، لقد قذفت هذه الأسئلة بي في صدى، وحيداً في فلاة لا ماء فيها ولا حياة..
ومما شاركَ في التشويه تصرفات دولة الذلقراطية العالمية التي تُجيد خلق التشويش، فالأيدي الشقية الخفية والمعلنة تدرك قيمة وجود مراجع وعقلاء في أي أمة يعمقون فكرة التواصل وبناء جسور التآلف..
نفوس عظيمة حين يكبر الهول تتصاغر أمامهم الهموم الذاتية القومية والحزبية والطائفية، قدوات هم السراج الذي يضيء الليل، والأمل الذي يبقي جذوة الحياة في أي قضية، يتمتعون بالعقل قبل العضل وأن العقل والرزانة تلجم نار الجهل والغضب..
إن وليمة جسد محرم وأكل غير مشروع تقدم للسوريين على شرف إهدار كرامة قيادي وهدر كرامته والكذب عليه، لا بد أن تكون وليمة أليمة بالنسبة لنا أكثر مما نتوقع، وسوف يخيم بسببها الدم والظلم والذبول والكمد ما لا تطيقه الجبال الشوامخ..
أمضى قطارنا عشر سنوات يقطر كالبرق المنفلِت من ماء السحاب على سكة الموت والتلاوم، وزفرة قلب العاقل تصعد في السماء.. إلى أين نذهب في ظل هذا التشاحن والتلاعب بنا، تدجين وتدجيل كالريح الخبيثة، الكلّ يتنفسها، متى سنمتنع؟
رغم كل الأخطاء التي ارتُكِبت باسمِ الثورة، رغم البؤس وذلّ بعض التصرفات وخطأ بعض القيادات وسياسات خاطئة، كان الشعب السوري بِعربه وكُرده وكلّ مكوناته أمة حرية يتسابق العالم ليتعلم منها معنى المقاومة الشريفة والمواجهة المدنية ومعنى كلمة لا.. في وجه نظام لا مثيل له على وجه الأرض، وقد صرنا في لحظة مختلسة من الزمن في أسوأ منقلَب ليس لسوءٍ فينا فحسب، ولكن لتعجيز وتوظيف عالمي لمجرم يقهر ويذل..
إن العلماني وحتى المتدين لا يمكن أن يجنّب الشعب الحرب ما لم يلتزم العلماني والديني بحقّ الشعب وسيادة القانون واتخاذ القرارات المستقلة وعدم إشاعة الأكاذيب والتقزيم للمختلف عنا ومعنا وتحريم فكرة الأحكام المعلبة. إن الأفكار لا تنتعش إلا بحواملها، فلتكن سياستنا السورية القائمة والقادمة شَحن الهمّة بالأمل واحترام بعضنا البعض واستعادة الثقة وتقديم تنازلات متبادلة ومعالجة الجراح والأخطاء التي طاولت الوجدان بين المكونات وتغليب روح الاجتماعي على السياسي..
لن نوقد شموع النصر إلا بعد استرداد دَور الزعامات، والالتفاف حول القضايا الكبرى وتقديم العام على الخاص وفي مقدمتها حق الجميع بالعدل والحرية والكرامة، ومن دون ذلك فنحن نضيع ونذهب إلى ظلام وقهر.. وقديماً قيل من ليس له كبير ليس له تدبير، فهل فهمنا لماذا نحن في متاهة؟