محاسن الصدف
طرأت أشكال جديدة على العمل الخدمي الإلكتروني حتى وصلت إلى البيوت. هيا شابة تدرس الهندسة المعلوماتية في جامعة دمشق، تعمل بشكل جزئي في بعض المواقع الإلكترونية؛ تنضيد، ربط شبكي، معالجة أقراص صلبة، استعادة بعض المواد المحذوفة بالخطأ، العمل على برنامجي "أوتوكاد" أو "فوتوشوب"، وكل ما يتعلق بأعمال الشبكة العنكبوتية من أبسطها إلى أكثرها تعقيداً.
لكنها الآن، وبينما هي في سنتها الدراسية الرابعة، وبات التخرج مُهَدداً بسبب ضيق الوقت وتفرغها للعمل على حساب الدراسة، في لحظة ضيق توازي رهبة انسداد الأفق أو التسليم والقبول بالرسوب، لمعت في ذهنها ومضة مغامرة، ولم تتوقع أبداً أن تتحقق! كان عليها أن تجد عملاً خارج أوقات الدراسة الجامعية لتدارك التهديد بالرسوب، ولمحاولة اللحاق بركب إنجاز المنهاج الدراسي المطلوب منها، لا سيما أنّ في جعبتها أربع مواد إضافية محمولة من السنة الثالثة، وبالتالي عليها تأمين الترفع والعبور نحو السنة الخامسة، وهي سنة التخرج بأقل ثقل ممكن. بدا ذلك مستحيلاً في ظل أزمة فرص عمل خانقة، وفي ظل فرض أصحاب المكاتب أو المؤسسات، وحتى محال تصليح الكومبيوترات المحمولة، توقيتَ وجود الموظفين/ات في العمل بناء على حاجتهم فقط.
استعانت هيا بوسائل التواصل الاجتماعي، وضعت إعلاناً تصرّح فيه عن رغبتها بالعمل الإلكتروني في أي موقع كان لكن بشرط أن يكون العمل بعد السادسة مساء! لم تتوقع رداً سريعاً وملبياً لشروطها كما حصل. اتصل بها محام متقدم في السنّ يريد أرشفة وتوثيق كل تاريخه الحقوقي وعمله الطويل في المحاماة، لكن مكان العمل سبّب صدمة وربما مبرراً كبيراً للرفض! أعلن المحامي بصورة حاسمة أنّ مكان العمل هو منزله، هو محام في الثمانين من عمره، تقاعد من العمل في المحاماة منذ شهر ويرغب بترتيب وثائقه وتاريخه المهني وشيخوخته بطريقة مهنية موثوقة.
وافقت هيا، وباشرت العمل في اليوم ذاته رغم تخوفها من خوض غمار عمل جديد وغير اعتيادي، واجهتها أكوام من الوثائق والأوراق والكثير من التوجيهات الحاسمة من المحامي كي يتم إنجاز العمل كما يريد حرفياً.
رغم فرط انضباط المحامي وضغطه المباشر على هيا لأرشفة سجله المهني وتاريخه الحقوقي، لكنها أحبت العمل وانشغلت بتفاصيله الجديدة بحماس ودهشة.
انفتحت أمامها عوالم مستجدة، أولها الحرص الفائق على إرث العمل الحقوقي ومدى تعلّق المحامي بعمله وتمسّكه بقيمته المهنية، والذي عبّر لها مراراً عن فخره بما حصّله من نتائج وما حققه على المستوى الشخصي والعام، خاصة أنه كان مختصاً بدعاوى التفريق والطلاق والنفقة والإرث. فقد عرّف عن نفسه بأنه مختص في قضايا الأحوال الشخصية، وبدأت الغمامة بالزوال من أمام عيني هيا، التي شعرت وكأنها وصلت فجأة وبشكل مباشر إلى قاع هوة سحيقة وعميقة، مرعبة وسالبة لحقوق النساء ومجهضة للمساواة أو لأي خطوات للسعي نحوها، بدا واضحاً وللمرة الأولى الخطر الذي يهدد النساء تحديداً في ظل وجود قوانين أحوال شخصية تمييزية غير متساوية وتستند بشكل أساسي إلى التبعية المذهبية والطائفية.
تحول قلق هيا العملي المستجد إلى شغف كبير، رغم سوء أوضاع النساء صاحبات الدعاوى القانونية ورغم العنف والظلم الذي حوته الوثائق، شعرت فجأة وكأنها تمسك بحبل طويل متسلسل من المآسي التي لا تقف العدالة بجانبها والتي يحاربها الجميع في ائتلاف غريب عجيب لكنه مرعب وغير منصف.
ثمة صدف تعبر سريعة وبصورة نادرة في حياتنا لكنها تغييرية وحاسمة، كل يوم كانت هيا تتعامل مع عملها في أرشفة إرث المحامي كانشغال طوعي بقضايا النساء، يوماً فيوم تحول شغفها إلى انخراط عميق في واقع تحول عملها فيه إلى فرصة للتضامن والتغيير، وليس مجرد فرصة عمل من أجل تأمين مستلزمات الحياة.