مكر السلطة
سعيد ناشيد
السلطة ماكرة بطبعها، ما إن تملكها في الظاهر حتى تملكك في الباطن، ما إن تمسك بتلابيبها أمام الملأ حتى تمسك برقبتك في الخفاء، ما إن تستبدّ باسمها في العلن حتى تستبدّ بك خلف الستار، ما إن تمتطي صهوتها بانتشاء الفرسان حتى تسوقك كالرهينة، فتصبح هي من يحدّد وجهتك، مواقيتك، كلماتك، علاقاتك، مشاعرك، ملامحك، ملابسك، وأمّا عندما تشتدّ قبضتك عليها فإنّها سرعان ما تتسرّب من بين أصابع يديك بنعومة مثل الأجسام الرخوة، مثل الماء، فلا يبقى لك منها إلّا الوهم الصاخب.
يقال، السلطة تفُسد من يمارسها. غير أنّ الذي يُفسد الإنسان بالفعل هو الجهل بآليات السلطة، وذلك حين تتسرّب السلطة من قبضة اليد المتشنجة ولا تترك إلّا فراغ القبضة بصخبها المخيف. إنّ صراخ الأب، أو الأم، على الأبناء الصغار، لا يُظهر أيّ سلطة على الصغار، بل يُظهر لحظة فقدان السلطة وبقاء وهم التسلّط بصخبه العنيف. كذلك القول عن عصا المعلّم في حجرة التدريس، إنّها الوهم الذي تتركه السلطة بعد تسرُّبها من قبضة اليد المتشنجة.
على منوال التشنج الجسدي الذي لا يمنحنا إلّا وهم القوة بعد أن يستنزف قوتنا من دون أن نشعر، فإنّ التشنج السلطوي لا يمنحنا إلّا وهم التسلط بعد أن يستنزف سلطتنا من دون أن نشعر.
ليست السلطة معطى بديهياً على طريقة "أنت هنا إذاً أنت تمتلك السلطة على هؤلاء" بل السلطة نسيج تفاوضي يومي، يتعرّض للإنهاك بفعل الاستعمال، غير أنّه ينهك كلّ من لا يعرف شيئاً عن الطبيعة البشرية، إلّا أنّ الحقيقة التي قد لا تعجبنا هي أنّ عبيد اليوم يُحكمون بالمعرفة، لا بالعصا!
قديماً قال المتنبي: لا تشترِ العبد إلّا والعصا معه... إذ إنّك ستتحكم في عبدك بواسطة العصا التي بدورها تُباع. لعلّ لسان حال متنبي اليوم يقول: لا تشترِ العبد قبل أن تعرفه... إذ إنك ستتحكم في عبدك بواسطة "قاعدة البيانات" التي بدورها تُباع. من لا يفهم الطبيعة البشرية لا يمكنه أن يفهم طبيعة السلطة.
الحقيقة التي قد لا تعجبنا هي أنّ عبيد اليوم يُحكمون بالمعرفة، لا بالعصا!
تمتلك السلطة في كلّ أحوالها ردّ فعل انعكاسياً سريعاً ومباشراً، لكنه لا يُرى للناس، لأنه يقع في ما وراء الظواهر والمظاهر، حيث يرقد الجوهر المظُلم للطبيعة البشرية.
مثلاً، قد يكون لديك مدير أعمال يمثّل علبة أسرارك. لكن الذي يحدث في مستوى الانعكاس اللامرئي للسلطة أنّ من يمتلك أسرارك سرعان ما يصبح سيّدك في الظل.
أو هناك مثال ثانٍ، ربما لديك موظفون انتزعتَ منهم حقوقهم المكتسبة بفعل سلطتك الإدارية، أو سلطتك على الإدارة، أو شططك بالأحرى، لعلّهم يصمتون في بادئ الأمر، لكنهم في مستوى ردّ الفعل الانعكاسي سيشعرون بالتخفّف من قيودك، وبالتالي من سلطتك، والبقية تأتي، ذلك أنّ عبيد اليوم تُقيّدهم المكتسبات، خلاف عبيد الأمس الذين كانت تقيّدهم الرغبة في البقاء على قيد الحياة.
السلطة مثل الأجسام الرخوة تتسرّب بيسر وسهولة من قبضات اليد الأشدّ قوة وصلابة، فلا تترك لأصحابها إلا وهم القبضة الفارغة.
السلطة بكلّ أنواعها، وفي كلّ مجالاتها، سواء في مجال الأبوة، الأمومة، التربية، التدريس، الإدارة، القيادة، أو الدولة، هي مثل الرخويات التي لا تعيش إلا في الماء، وبالتالي لا يمتلكها إلا الماء، ولذلك ينبغي لصاحب (ة) السلطة أن يكون مثل الماء.
بل هكذا أقول لك: أينما كنتَ كن مثل الماء. لكن إذا كنتَ في السلطة فكن أنت الماء.