ملف العنصرية: أنا جيّدٌ لأنّ الآخر سيئ (10)
قرأت مرةً منشورًا فيسبوكيًّا يتضمن القول بأنّ السوريين شعبٌ عظيمٌ ومتفرِّد، يملكون خصائص لا يملكها أيّ شعبٍ آخر. وفي مناقشتي للمنشور، أشرت إلى أنه يتضمن "عنصريةً". فردّ صاحب المنشور بأنه ضد العنصرية، لكنه لا يستطيع إنكار الواقع الذي يبيّن أنّ الشعب السوري أفضل، بماهيته أو جوهره، من الشعوب الأخرى!
المقارنة أداة معرفية مهمة وضرورية في حالاتٍ كثيرةٍ. وقد أبرز فلاسفة كثيرون إيجابيات هذه الأداة المعرفية. فسقراط وإيمانويل كانط ومارتن هايدغر شدّد كلّ منهم، بطريقته، على أهمية المقارنة في الاكتشاف والفهم والتعلّم وتوسيع الوعي وتطوير الفكر وتجاوز الضيق الثقافي والتعايش مع التنوّع الثقافي. لكن المقارنة قد تتضمن سلبيات كثيرةً، خصوصًا عندما تتحوّل إلى مفاضلةً تنفي الفردية والفرادة وتجعل قيمة الذات رهينةً بقيمة الذوات الأخرى. ففي هذه الحالة يكون نجاح الآخرين دليلًا على فشلي، واكتساب الآخرين قيمةً ما أو تحقيقهم لإنجازٍ أو مكانةٍ ما هو، في الوقت نفسه، إشارة إلى إخفاقي ومكانتي المتدنية. وعلى هذا الأساس، يمكننا أن نفهم لماذا رأى الفيلسوف الألماني فريدرك نيتشه والفرنسيون جان بول سارتر وسيمون دبوفوار وميشيل فوكو وآخرون أنّ مثل هذه المقارنات أو المفاضلات يمكن أو يُرجح أن تفضي إلى انخفاض في احترام أو تقدير الذات، والشعور بالتعاسة وعدم الرضا، وخلق مشاعر عدم الكفاءة وانعدام الأمن، وخلق توقعات غير واقعية، وهو ما يؤدي إلى خيبة الأمل والإحباط وإثارة المشاعر السلبية مثل الاستياء والمرارة والغيرة والحسد. وكلّ ذلك وغيره قد يعيق النمو الشخصي، حيث تؤدي مقارنة الذات باستمرار بالآخرين إلى تشتيت انتباه الأفراد عن التركيز على نموهم الشخصي وتطوّرهم، والانشغال بمحاولة التفوّق على الآخرين أو تجاوزهم بدلاً من العمل على تحسين أنفسهم والسعي وراء أهدافهم الخاصة.
يمكن لمزيج الشعور بالمشاعر السلبية الناتجة عن الإفراط في المفاضلة ومقارنة الذات بالآخرين أن يفضي إلى أنواعٍ مختلفةٍ من العنصرية
انطلاقًا من ذلك، نرى لماذا ننشغل أحيانًا في تقزيم إنجازات الآخرين أكثر من انشغالنا في التركيز على الجوانب الإيجابية عند الآخرين، وحتى عند أنفسنا. ونتحوّل حينها إلى ثعالب ترى العنب حصرمًا لأنّ غيرنا وصل إليه، و/أو لأننا لم نستطع الوصول إليه. فعلى سبيل المثال، نشدّد، حينها، على حصرمية تولّي المناصب أو حضور المؤتمرات والندوات أو المشاركة فيها، وأننا نتجنبها، على الرغم من أننا لم نكن مدعوين إليها أو أنها غير معروضة علينا وغير متاحة لنا أصلًا. وبقصدٍ أو بدونه، قد نختلق لأنفسنا بطولات وصولات وجولات، وإيجابياتٍ وإنجازات، لنستعيد شيئًا من توازننا النفسي، ويكون تأكيدنا لفرادتنا بإظهار تفوّقنا أو أفضليتنا مقارنةً بما لدى الآخرين.
ويمكن لمزيج الشعور بالمشاعر السلبية الناتجة عن الإفراط في المفاضلة ومقارنة الذات بالآخرين أن يفضي إلى أنواعٍ مختلفةٍ من العنصرية. فعلى سبيل المثال، للتقليل من قيمة تقدّم "الغرب"، تظهر المزاعم بلاأخلاقيته أو افتقاده أو افتقاره للقيم الأخلاقية التي نمتلكها نحن، "العرب أو المسلمين أو الشرقيين" ... إلخ. وهكذا تستعيد الذوات المتبنية لمثل هذه المزاعم العنصرية الموهومة جزءًا من الثقة المفقودة بذواتها الجريحة أو المكلومة.
الذات الجريحة حسّاسة تجاه أي نقدٍ أو انتقادٍ تتعرّض له، مع استسهالها نقد الآخرين وانتقادهم واتهامهم بالعنصرية على أساسٍ عنصريٍّ
والذات الجريحة حسّاسة تجاه أي نقدٍ أو انتقادٍ تتعرّض له، مع استسهالها نقد الآخرين وانتقادهم واتهامهم بالعنصرية على أساسٍ عنصريٍّ. وأذكر في هذا الإطار، أنه منذ بضع سنوات، طلب شخصٌ مني أن أسأل شخصًا آخر يعمل في أحد المحلات التجارية الألمانية عما إذا كان يبيع خط موبايلٍ بالتقسيط. كنت حينئذٍ لا أستطيع التواصل باللغة الألمانية، فسألت البائع إن كان بإمكانه التواصل باللغة الإنكليزية، فاعتذر عن عدم قدرته على ذلك، لعدم إلمامه الكافي باللغة الإنكليزية. سارع الشخص الذي كان معي إلى الهمس في أذني بأنّ هذا البائع عنصري، وأنّ عنصريته هي التي تمنعه من التواصل معنا باللغة الإنكليزية. رأيت في هذا الاتهام بالعنصرية عنصريةً، لأنه يقوم على افتراض أنّ هذا الألماني عنصري بالتأكيد لمجرّد زعمه أنه ليست لديه القدرة على التواصل معنا باللغة الإنكليزية، بدون امتلاك معرفة عن مدى صدقه أو كذبه في خصوص مقدرته اللغوية الإنكليزية. وفي مثل هذه السياقات يلتقي النقيضان: حساسية عالية من التعرّض للعنصرية، واستسهال ممارستها، وتكون الذات جيدة بقدر ما هي مظلومة وبقدر ما يكون الآخر سيئًا وظالمًا. ويكون الكوجيتو/ الأنا أفكر لدى هذه الذات هو "الآخر جيد، إذن أنا سيئ"، أو "الآخر سيئ، إذن أنا جيد".