يا ظريف الطول
يعدّ التراث الشعبي ثروة لا تنتهي، وقيمة حافظت على ألق الماضي، وذاكرة تنقل عبق سنوات طويلة امتازت بأصالتها، رغم التطوّر المتسارع في شتى مجالات الحياة، فحرصت الشعوب على تناقل تراثها بين أجيالها؛ حتّى أصبح جزءاً من حاضرها، واستطاع القفز فوق أي حواجز قد تحصره في جيل معين، وتأقلم مع الحداثة التي فرضت نفسها بطبيعة الحال، واستمرت في إنتاج إبداعات إنسانية لم تنضب أو تتوقف مع تعاقب الوقت.
يشمل التراث الشعبي العادات والقيم والتقاليد والفنون، التي تشكّل جميعها موروثاً إنسانياً، ومنهجاً حافظ على هوية الشعوب الأصلية، وتنطوي تحت مظلة التراث مجموعة مظاهر، كالمطرزات واللباس الفلكلوري، والحرف اليدوية وأشغال الخزف، والأمثال ذات المعاني والمغازي، والقصص المتنوّعة بين الحكم والأساطير، والأغاني الشعبية التي ما زال الكثيرون يرددونها في المناسبات والاحتفالات، للتعبير عن الفرح أو الحزن أو ذكرى قديمة تعود إلى ماضٍ بعيد.
أرى أن الأغنية الشعبية من مظاهر التراث العابرة للأجيال، وذلك لكثرة تردادها بين النّاس، وتأقلمها مع تبدل الأحوال، وتطوّر النغمات، واختلاف الألحان، وطريقة الغناء بين جيل وجيل، كما استخدمت الأغاني الشعبية لتكون روايات قصيرة جداً، تحكي حكايات وقصص الأجداد للأحفاد، ومن أشهر الأغاني الشعبية تلك النابعة من التراث الشعبي الفلسطيني، والتي شاركت في رواية قصة شعب فلسطين بجميع مراحلها، والظروف التي مرّ بها الفلسطينيون خلال رحلتهم للمطالبة بحقّهم المشروع في أرضهم، وتعزيز جذور هويتهم القومية والوطنية والعربية.
حملت أغنية يا ظريف الطول في كلماتها عدداً من المعاني المختزلة في شخصية الشاب صاحب لقب ظريف الطول، فاستخدمت كلمة (ظريف) للدلالة على جمال طول الشاب
كثيرة الأغاني الشعبية الفلسطينية التي ما زالت كلماتها تتردد إلى الآن، ومن أشهرها أغنية (يا ظريف الطول) التي واكبت ككثير من الأغنيات الشعبية الأخرى تغيرات في الكلمات أو بعض المقاطع الموسيقية؛ حتّى تتوافق مع المناسبة المغناة فيها، ولا يُعرف من مؤلف كلماتها أو ملحنها، وأصبحت مع مرور الوقت علامة تراثية مميزة في التراث الشعبي الفلسطيني، فرافقت الفلّاحين في الصباحات الباكرة داخل المزارع والحقول، وامتزجت بأغاني الدبكات في حفلات الزفاف، وغناء الجدّات في أغلب الجلسات، فصارت وسماً لامعاً من وسوم القضية الفلسطينية الخالدة.
حملت أغنية يا ظريف الطول في كلماتها عدداً من المعاني المختزلة في شخصية الشاب صاحب لقب ظريف الطول، فاستخدمت كلمة (ظريف) للدلالة على جمال طول الشاب، والموصوف في مطلع الأغنية الذي يقول: "يا ظريف الطول وقف تقولك .. رايح عالغربة وبلادك أحسن لك".
وجاءت المناداة هنا بهدف لفت انتباه الشاب، ودفعه للتوقف عن قرار الرحيل، والاغتراب في بلد آخر بعيداً عن بلده وأهله، وتكمل الكلمات بتوجيه النصيحة الآتية: "خايف يا ظريف تروح وتتملك .. وتعاشر الغير وتناسني أنا"، وهنا تأكيد على الخوف من عدم عودة المسافر إلى وطنه، وتأقلمه مع حياته الجديدة والأشخاص الذين عرفهم فيها، ثم تتوالى مقاطع الأغنية التي تتبدل أحياناً أو يتغير ترتيبها باختلاف المغني وأجواء الغناء.
تنوّعت القصص والروايات حول القصة الأصلية لأغنية (يا ظريف الطول)، وحقيقة شخصية الشاب المسمى بهذا اللقب، فيقال إنه كان موجوداً إبان فترة الاحتلال الإنكليزي لأراضي فلسطين، وهو شاب جميل وصاحب طول مميّز، عمل نجاراً في إحدى القرى الفلسطينية التي كان غريباً عنها، ولكن أحبّه النّاس؛ بسبب حُسن أخلاقه وأدبه، وبعد هجوم إحدى العصابات على القرية، غاب ظريف الطول، وعاد يحمل الأسلحة التي اشتراها بالمال الذي جناهُ من عمله، ووزعها على شباب القرية، وعندما عادت العصابات مرّة أخرى، كان من بين المشاركين في صدّها، وفي يوم من الأيام بعد انتهاء إحدى المعارك، واستشهاد مجموعة من الثوّار، اختفى أثر ظريف الطول، وتنوّعت الأخبار والقصص التي نسجت عنه، فهناك من شاهده مع الثوّار في قرية أخرى، وقيل أيضاً إنه سافر للعيش في بلد آخر؛ ليحارب مع الثائرين فيه ضد محتليه، وأرى أن أكثر القصص قرباً للواقع، تلك التي تقول إن ظريف الطول، ليس إلا لقباً شعبياً فلسطينياً يطلقُ على كل شاب ثائرٍ، ومقاومٍ للاحتلال المعتدي على أرضه.
باتت أغنية يا ظريف الطول سلاحاً مقاوماً، وأيقونة شعبية، ورمزاً وطنياً مدافعاً عن القضية الفلسطينية، فليس السلاح فقط من يطلق النّار، بل تستطيع الأغنية والقصيدة والأهزوجة أن تكون بندقية تزلزل وتخيفُ الاحتلال، فغسّان كنفاني استشهد؛ لأنه واجه المحتل بكلماته، وناجي العلي قاوم بفنّه ولوحاته؛ لتأتي شهادته ملوّنة بالدم الأحمر، أمّا ظريف الطول؛ فهو كل شاب فلسطيني وضع روحه بين كفّيه، ولم ينفكّ أو يستسلم عن مقاومة الاحتلال، ما دام نبضه ينبض بين ثنايا قلبه، الذي يحمل قضية وطنه وشعبه.