"إخوتنا الغرباء" لأمين معلوف: مستقبل مضاد

03 ابريل 2022
فخر النساء زيد/ تركيا (جزء من لوحة)
+ الخط -

"إخوتنا الغرباء" ليست رواية عن الماضي، مسرحِ روايات أمين معلوف التقليديّ. إذا كانت رواية "التائهون" عن الحاضر اللبناني، فإن رواية "إخوتنا الغرباء" هي عن المستقبل، وهي ككلّ هذا النوع من الروايات تنتظر هذا المستقبل وتتخيّله. إنها لذلك روايةُ فانتازية، رواية غرائبية.

ليس الزمن وحده هو الذي تغيّر في هذه الرواية، فما تغيّر هو في الحقيقة الأسلوب، بل والنوع أيضاً. لا يمكننا في هذه الحال إلّا أن نقول إن معلوف في روايته هذه يزاول رواية أخرى جديدة عليه وعلى روايته. "إخوتنا الغرباء" لذلك تجديدٌ، بل وانتقالٌ الى ضفّة ثانية، إلى رواية مختلفة وفتْح آخر في الرواية.

"إخوتنا الغرباء" (ترجمة نهلة بيضون، "الفارابي" 2021) قد تنتسب الى رواية الخيال العِلمي بمقدار؛ الرواية تتكلّم عن أقوام يرتدّون الى الثقافة الهيلينية، إنهم "أصدقاء أمبادوقليس"، لكنّ الرواية لا تجازف بأيّة نظرية حول وجودهم إلى جانب البشرية الأخرى. إنهم يأتون من البحر، حيث تتوقّف سُفُنهم لإشفاء الناس، ولهُم قدرة عجائبية على ذلك.

ليس في الرواية أيّ تفسير عِلميّ لهذه القدرة. إنهم يشفون من السرطان الذي هو في مرحلته الأخيرة، كما هي حال رئيس الجمهورية الأميركية، في دقائق، ولعلّهم قادرون على الحياة الى الأبد، إذ تهجس الرواية بذلك، بدون أن تقطع به أو تجزم.

لا نعرف إن كانت رواية خيال علمي أم أنّها تتوسله لغرض آخر

لكنّ الرواية لا تلجأ الى عِلم افتراضي، ولا تؤسّس أو تخترع عِلماً من أيّ نوع. كلّ ما نعرفه أن هذه القدرة العجائبية، ما إن تظهر حتى تجتذب الناس، لكنّ الأمر لا يمرّ بسهولة. هؤلاء الأقوام لا نعرف بالضبط من أين أتوا، لا تجازف الرواية بأيّة فرضية حول ذلك، سوى أنهم جاؤوا من البحر وعاشوا منذ ذلك الحين الى جانب البشر الآخرين، الذين تجعلهم غريزة التجاهل الأصيلة لا ينتبهون لذلك.

نحن هنا أمام نظرية سائرة هي نظرية العالم الموازي أو البشرية الموازية، لكنّ أمين معلوف لا يقول إنهم جاؤوا من الفضاء، أو من كوكب آخر. لا يقول ذلك لأنه لا يريد أن يقوله، فهو في الغالب لا يريد لروايته أن تلحق بهذا النمط الدارج. لا يريد لروايته أن تغرق في الخيال العِلمي، بل لا يريد أن تكون بالكامل رواية خيال عِلمي.

"إخوتنا الغرباء" لا تقترح عِلماً وتترك، عن قصد، فراغات لا تجازف بملئها. أيّ عِلم ترجع إليه هذه القدرة العجائبية للأقوام الآتين من البحر، ومن أين جاؤوا فعلاً؟ إذ لا تكفي الإشارة الى البحر للإجابة عن هذا السؤال الذي لا تتجاهله الرواية، بل تتعمّد أن يكون جوابها عنه ضبابياً.

لا نعرف إذا كانت الرواية حقّاً من الخيال العِلمي، أو أنها تتوسّل الخيال العِلمي لغرض آخر أقرب الى التفلسف والتأمّل. نفهم من الرواية، وعلى ألسنة شخصياتها، وبعضهم مغرق في سوداوياته، أن خروج هذه البشرية الموازية إنما كان لإصلاح عالَم حوّلته بشريته، وحوّله أهله، إلى عالم مكروه، وجعله قاطنوه كريهاً ومخيّباً وفاقد المعنى.

إخوتنا الغرباء - القسم الثقافي

هذا التشاؤم يردّنا أحياناً الى مفكّر مثل سيوران لا يتيح لأيّة بارقة أمل أن ترد. هنا نجد ما هو أكثر من رواية، نجد فسحة لتأمّل أسود، وأطروحة لكُره العالم واليأس منه، ما يذكّر، ولو من بعيد، بشذرات سيوران. وعلى كلٍّ، فإن شذرات أمين معلوف مفعمة بذكاء سلبي وحكمة مضادّة. هنا نبتعد، على نحو ما، عن الخيال العِلمي، وخاصّة حين تعرّج الرواية على السياسة، فإذا نحن، عند ذاك، في قلب اللعبة السياسية الراهنة. حين تستفزّ قدرات الجماعة الشافية وَطَنيّةَ كثيرين، ترفض أن يكون لـ"القوّة المتدخّلة"، كما سمّوها، يد على البلاد وعلى الدولة الأميركية، بحيث يعمدون الى تفجير سفينة الشفاء. إذ ذاك نجد أنفسنا في الولايات المتّحدة اليوم، ونجد أنفسنا هكذا أمام اللعبة السياسية الراهنة، لا نبتعد هكذا عن اليوم ولا ندخل في خيال عارم.

عند ذلك نتذكّر أمين معلوف في رواياته التاريخية، التي تجعل منه أيضاً شِبه مؤرّخ. "إخوتنا الغرباء"، وكذلك "التائهون" قبلها، لا تخرجان عن التاريخ، الذي يبقى حاضراً ولو في لوحته السوداء. "إخوتنا الغرباء" هكذا تتناول المستقبل ولكن كتاريخٍ، كتاريخ آتٍ، لكنْ أيضاً كتاريخٍ مضاد. ليس المستقبل وحده موضوع الرواية لكنّه أيضاً، وبدرجة أكبر، تأمّلٌ في التاريخ والسياسة، أو نظرية في التاريخ والسياسة.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون