"الرغبة"، التي صدرت عن دار "الجمل" بترجمة حنان المسعودي (2018)، هي رواية الأسترالي ريتشارد فلاناغان، الذي سبق لروايته "الطريق الضيّق إلى مجاهل الشمال" أن نالت جائزة بوكر. رواية "الرغبة"، مثلها مثل سابقاتها، تبني على أساس تاريخي. إذا كانت الأولى بنت على حرب مع اليابان، فإن الرواية الثانية تبني على سيرة كاتب، كان في عصره الأوّل في إنكلترا، هو تشارلز ديكنز. قد يتراءى لنا أن الرواية تستمدّ من السيرة الأصلية لتشارلز ديكنز، وقد يكون في هذا بعض الصحّة، فنحن هنا نطلّ على بدايات ديكنز وعلى حياته العائلية (عائلته كبيرة، تصل إلى عشرة أولاد)، ثم نطلّ أيضاً على انشغاله الروائي وشغفه بالمسرح إلى حد القيام بالتمثيل.
هذه بالطبع شذرات حقيقية من حياة الكاتب الشهير، لكنّ فلاناغان لا يكتفي بالسيرة، بل لا يكتفي بديكنز في روايته. إنه يقابل سيرة الكاتب الإنكليزي، التي لم تقتصر على المعروف منها، ويضيف إليها ويحوّر فيها بحيث لا يبقى التاريخ وحده، إذ ينطلق منه ليضفي عليه سمات وأموراً ترتدّ إلى الواقع، أيِّ واقع.
يقابل فلاناغان سيرة ديكنز بسيرة أخرى ينفذ إليها من أعمال ديكنز، إنها سيرة سير جون، المستكشف الإنكليزي الذي هلك مع فريقه في ألاسكا بعد رحلة استكشافية؛ هو المستكشف الشهير الذي جعله ذلك أشبه ببطل قومي. لكنّ العقدة ليست هنا، بل هي ما ذاع عن أن المستكشف الذي علق في السفينة مع فريقه، قد أفضى بهم الجوع إلى أن يتغذّوا من جثث بعضهم بعضاً. حادثة كهذه لا يروق لديكنز أن تُنسب إلى مستكشف إنكليزي أبيض، فيتصدّى لها في مسرحية سنوية اعتاد أن يعرضها ويمثّل فيها.
طفلة سوداء ينتزعها رجل أبيض من أهلها ليعلمها "التمدّن"
لكنّنا من هذه الحادثة ننفذ إلى حياة السير جون، الذي سبق له أن كان حاكماً على مستعمرة. هنا يقدّم فلاناغان وجهاً آخر للمستكشف الشهير، إذ يصِمه بالغباء والهمود والاستتباع لزوجته جين الأذكى منه والأفضل تدبّراً. لا يروق لديكنز أن يوصم بأكل لحوم البشر بطلٌ قومي إنكليزي أبيض، لكنّ المسألة لا تقف هنا، إذ إن رواية أخرى تتولّد من فترة ولاية المستكشف التي نصادف فيها الطفلة السوداء ماثينا. هذه الطفلة تبنّاها سيرجون وزوجته على أمل أن يصنعوا منها، هي البربرية السوداء، متمدّنةً أصيلة. هكذا نجد أنفسنا حيال النبيل الأبيض المتمدّن الذي، رغم تمدّنه، يصل به الأمر إلى أن يشارك في مجزرة يتغذّى فيها البيض من لحوم بعضهم بعضاً.
من ناحية أخرى، هناك البربرية التي أُعِدّ لها أن تتمدّن، وكان لها من الذكاء أن بشّرت بأنها على وشك ذلك، لكنّها لا تبقى طويلاً على هذه الحال، إذ تعود إلى ما ورثته من طفولتها ومن تربيتها الأولى، هي التي تحافظ على حيوانها المفضّل، بوسون، وببغائها، لا تلبث أن تنكفئ عن محاولة تمدينها. الأمر الذي يجعل اليأس يدبّ في نفس الحاكم وزوجته اللذين ينفضان أكفّهما من هذه المحاولة، والنتيجة: ترسَل الفتاة إلى حيث يُعاد تأديبها بقسوة بالغة. هذه مرحلة أولى سيتبعها تحوّل الفتاة في صباها إلى عاهرة تشتري بجسدها طعامها.
هكذا يبدو التمدّن، كما في المثال الإنكليزي الأبيض الذي جسّده سير جون واستعاده تشارلز ديكنز: يبدو هكذا اختراعاً أبيض وأسطورة غربية، فسير جون، بطله، لا يلبث أن يتحوّل إلى أقصى حدود البربرية، حين ينتهي به الأمر آكلاً للحوم البشر، الأمر الذي لا تبدو محاولة ديكنز التغطية عليه وإنكاره، سوى مشاركة، ولو من بعيد، فيه.
من ناحية أخرى، يبدو حلم التمدين أيضاً أكذوبة، حين لا ينجح مع الطفلة السوداء، التي لا يسعفها ذكاؤها المتّقد ورشاقتها في انتحاله والسير به. لا يغري التمدّن الابنة المتشبّثة ببوسونها وببغائها، ويتحول إلى فخّ هائل تتردّى فيه، وتنقلب إلى عاهرة تشتري طعامها بجسدها. من هنا وهناك يبدو التمدّن، وكلّ ما يتّصل به ويقوم عليه، أسطورة غربية. إنها ادعاء الغرب الأبيض كما يراها الأسترالي، الآتي من البلد الذي لهذه الأسطورة فيه حكاية خاصة، انتهت بتجريد السكّان الأصليين من أولادهم وإخضاعهم لتربية البيض، أي إجبارهم، كما حصل لماثينا السوداء، على تمدينٍ سرعان ما يغدو ترديّاً وانحطاطاً وبؤساً متمادياً.
لقد انتهت حكاية الطفلة السوداء، التي انتُزعت من عائلتها وشعبها المتساقط بقوّة البيض إلى موت لم ينجُ منه أحد سوى القليل، فيما كانت الطفلة ــ التي أراد المجتمع الأبيض أن تكون مثال التمدين ــ تتردّى في حياة الجلَد، والجوع معيارها، والدعارة خاتمتها، وخاتمة الأسطورة الغربية، أسطورة التمدين نفسها.
وفي ما يخصّ عنوان الرواية، "الرغبة"، لا نجد مكاناً للرغبة إلّا في نهايات ديكنز، الذي يُفتَتَن، ولكن برويّة وصبر "أبيضين"، بألين. "الرغبة"، إذا عدنا للرواية، إذا عدنا إلى علاقة ديكنز بزوجته وعلاقة جين بزوجها سير جون، ليست إلّا موت الرغبة وحضورها الشبحي، وإذا شئنا أن نزيد قلنا افتضاحها.
* شاعر وروائي من لبنان