صحيح أن النزعة النسوية لها حضور في الثقافة العربية على مستوى الكتابات والميدان، ولكنّها تظل في الغالب غير مرتبطة بالمدوّنة الفكرية التي رافقت صعود هذه النزعة. وفي عدا الانشغال الذي قدّمته نوال السعداوي، لا نجد الكثير من محاولات التأصيل العربية للنسوية، خصوصاً منها التي تحاول فهم الواقع البشري دون أحكام جاهزة، لتبقى الترجمة هي القناة الأساسية لمرور الفكر النسوي.
ضمن سلسلة "ترجمان" لدى "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، صدرت منذ أيام النسخة العربية من كتاب "قلق الجندر: النسوية وتخريب الهوية" للباحثة الأميركية جوديث بتلر بترجمة فتحي المسكيني.
يفحص الكتاب أهمّ فرضيات النظرية النسوية التي تقول بوجود هوية نسوية، ويتحدّى الفرضيات حول الاختلافات بين الجنس والجندر، التي تقول بأن الجنس شيء بيولوجي، وأن الجندر هو بناء ثقافي، حيث تؤدّي هذه التفرقة إلى حدوث انفصام في شيء من المفترض أنه واحد.
تسعى بتلر إلى الكشف عن الطرق التي من خلالها يكون التفكير نفسه في ما هو ممكن في الحياة المجندرة ممنوعاً، وإلى تقويض أي خطاب لنزع المشروعية عن الممارسات الجنسية والمجندرة الخاصّة بأقلية ما؛ على الرغم من أن هذا لا يعني أن ممارسات الأقلّيات كلّها ينبغي التغاضي عنها أو الاحتفاء بها، بل "علينا أن نكون قادرين على التفكير فيها قبل الإقدام على أي نوع من الاستنتاجات حولها".
عبر صفحته في فيسبوك، يقدّم المفكّر التونسي فتحي المسكيني ترجمته الجديدة. يقول: "كان دأبي دوماً أن أعمل على نقل أمّهات الكتب التي تخلق عالماً جديداً في لغة ما، وليس مجرّد نقل كتب ثانوية هي أقرب إلى العلَف الإبستيمولوجي منها إلى النظريات المؤسّسة في مجالها. وقد فعلت ذلك مع هايدغر وهابرماس وكانط ونيتشه من قبل. لا أترجم إلاّ ما أراه جزءاً من ماهيّة العصر، يقبض على حقيقة مجتمع أو دين أو جيل أو جماعة كبيرة ويحوّلها إلى ورشة تفكير".
يضيف: "وقد وجدت في كتاب جوديث بتلر الذي ترجمته تمريناً رائعاً على إعادة طرح القضايا النسوية على نحو وضع مقولة 'النساء' نفسها موضع سؤال، بحيث أنّ تحرير 'النساء' من الهرميّة المعيارية التي تأسّست على الفرق بين 'الجنسين' من الذكر والأنثى، وتجسّدت في النظام الأبوي وشبكة السلطة الجنسية والسياسية التي تمخّضت عنه، هو معركة رمزية تظلّ عرضيّة أو معطوبة طالما لم يتمّ تحرير الذات التي يُفترض أنّها موجودة خلف هذه التسمية".
يوضّح المسكيني هذه النقطة التي يجد قوامها في نص بتلر فيقول: "إنّ هوية الجندر هي عبارة عن فعل إنجازي وليست جوهراً بيولوجياً أو ماهية اجتماعية مستقرّة بلا رجعة. فعل إنجازي: أي شيء لا نكونه، بل نفعله. شيء لا يقع بل دور نؤدّيه. وهو لا يبدو لنا أمراً طبيعيّاً إلاّ لأنّه تماهى مع البنية النحوية التي نعبّر بها عن أنفسنا".