استمع إلى الملخص
- الثورة السورية، بطابعها الإسلامي، تثير جدلاً بين المثقفين حول توافقها مع الثورات العلمانية، مما يعكس التوتر بين الهوية الدينية والوطنية.
- النقاشات حول الثورة والسياسة السورية تتركز في الفضاء الافتراضي، مما يثير انتقادات لعدم تواجد المثقفين على الأرض، حيث يجب عليهم العمل لتحقيق التغيير المنشود.
للسياسة جانب عملي أساسي يُمارَس على الأرض، لا ينفع فيه النضال في المقاهي، طالما أنها مكان للحكي وتبادُل الآراء، ولا يعوّض عنه الاكتفاء بإبداء الرأي على وسائل التواصل، أمّا لماذا نشط السوريون في الكلام، هذا لأنهم حُرموا منه طوال أكثر من نصف قرن، الأمر الجيّد أنهم لم ينسوه.
اليوم، لم يعد الكلام ترفاً، بات ضرورة، خصوصاً بعدما توفّرت أوضاع نضالية للمثقّفين أكثر راحة واسترخاء بحيث يستطيعون إطلاق أقوى الانتقادات، والشعارات صخباً، وهم مضطجعون على "الصوفا"، أو جالسون أمام شاشة اللابتوب، يكتبون ويعلّقون ويسخرون، يكشفون المستور، ويفضحون الخفايا، تُلهمهم ذخيرة تاريخية مشؤومة تراكمت طوال عقود من الهزائم، والإحباطات، رافقتها تنظيرات وتحليلات واجتهادات، وخبرات لثورات اندلعت في أرجاء العالم، قديمة وحديثة كثيرة؛ الفرنسية، والروسية، والصينية، ولاهوت التحرير في أميركا اللاتينية، والثورات المخملية في بلدان أوروبا الشرقية... وكذلك انقلابات العسكر التي دُعيت بالثورات أيضاً.
للسياسة جانب عملي أساسي يُمارَس على الأرض
ثورتنا، إذا شئنا لها هذه التسمية، لا مثيل لها، امتدّت ثلاثة عشر عاماً، لم تُنه أعمالها بعد، بل بدأتها. لا تُريد اقتلاع الدولة من جذورها، بل الحفاظ عليها، ثم أنها ذات طابع إسلامي، لأن الذين قاموا بها أغلبهم إن لم يكن جميعهم متديّنون ومُلتحون. ارتأى مثقّفونا عدم إدراجها في عداد الثورات المرموقة المعترف بها، ووصفوها بالتخلُّف، خصوصاً أن الثورات المتعارف عليها تتميّز بأنها بلا دين، بينما هذه مشبوهة، إن لم تكُن متّهمة بالإسلام السياسي، فلا يجب أن ننسب نجاح ثورتنا إلى الذين صنعوا هذا النصر، وإنما التأكيد على أنها ثورة الشعب السوري، ما يُفقد الذين قاموا بها وطنيتهم، ويركّز على إسلاميتهم، وكأنهم ليسوا من الشعب، مع أن الغالبية العُظمى من السوريين محافظون ومتديّنون بجميع طوائفهم.
ما سبق من كلام مضمونه التشكيك بهذا الإنجاز، القائلون به مثقّفون لا يهمّ إن كانوا عضويّين أو غير عضويّين، أو ما شاؤوا، أكثرهم لاجئون في الغرب، أي أن معلوماتهم جرى تحديثها حسب إنجاز أوروبي عبارة عن اتّهام تحت عنوان "فوبيا الإسلام"، مع العِلم أن الغرب ساهم بصناعة الإسلام السياسي، ثم انقضّ عليه بعدما فلت منه، وأصبح له مسارٌ مختلفٌ.
يحضرنا في هذا المقام ميشيل كيلو كمناضل سياسي، لم يوفّر مكاناً ولا جهة في الفيافي والقفار السورية إلا واتّصل بها وعمل معها، ليجمع بين اليساريين بأنواعهم، والعلمانيين، والمتديّنين من الإسلاميين والمسيحيين بمذاهبهم كلّها، من خلال الحوار معهم. المقصود أنه كان مناضلاً على الأرض. فلم يَسلم من اتّهامات مناضلي الفنادق.
لم نقل هذا إلا لأن هذا الضجيج يدور في الخارج، وهناك من يتلقّفه في الداخل ويبني عليه انتقاداته، وأحياناً بالعكس. في الحقيقة لم يعُد هناك داخل وخارج، إذ يدور هذا الصراع ويحتدم في الفضاء الافتراضي، والجالسون أمام الشاشات أو مضطجعون على "الصوفا"، لم يغادروا أماكنهم بعد. بينما من المستحسن مغادرتها وشدّ الرحال إلى الوطن المنكوب، ليتأمّلوا ويفكّروا في الأولويات المطالَبين فيها، إذ لكلّ منهم أولوياته حسب الإيديولوجية التي أحياها بعد سُبات، مع أنه حتى الإيديولوجية الواحدة، مهما جرى تحديثها، تتعثر في التفاصيل.
إذا كانوا مُستعجلين، فالمستقبل العاجل لا يُصنَع عن بُعد. وما دام كلّ منهم يريد أو يرغب في فرض أولوياته ليعبر إلى المستقبل، وكأنهم لا يتحكّمون به فقط، وإنما يعلمون بالغيب، فلا عجب إذا تعالت أصواتُهم في الوقت المناسب، أواخر العام حيث ينشط قارئو الحظّ.
أخيراً، إذا كان المثقّفون ينشدون نظاماً ما، مواصفاته في رؤوسهم فلا يكفي، يجب أن يعملوا عليه، لذا لا بدّ من النزول إلى الأرض، فالأنظمة تُبنى في الواقع، بينما الكلام يتبدّد في الأثير.
* روائي من سورية