تستعد المؤسّسات الثقافية في البلدان العربية لإحياء النشاط الثقافي بوتيرة عالية بعد سنوات من الركود القسري. وكما يبدو، ستكون العودة بكامل حمولتها مع إضافات، تعويضاً عن قيود كورونا. تحت تأثيرها كان التراجع في اللقاءات الثقافية الحيّة، واقتصر على لقاءات افتراضية، مهما يكن أثمرت ولو كان عن بُعد، وإن كان منقوصاً.
في حال استعاد النشاط الثقافي عافيته، فليته لا يكرّر نفسه، فالفترات الماضية قبل كورونا لم تنتج إلّا تلك اللقاءات الروتينية التي تبدو وكأنّها اجتماعٌ يتكرّر بين أصدقاء دائمين، يتعارفون في كلّ مرّة من جديد، ثم طقوس الوداع على أمل اللقاء في العام التالي، ما يحافظ على استمرارية صداقاتهم التي توطّدت في القاعات والفنادق والمعارض والجوائز. أصبحت الندوات الأدبية ماركة مسجلة، لا يصحّ الخروج عنها، لم تتغيّر، وإن افتقدَت موضوعات فارقة، ضرورية وحساسة تُعنى بتطوُّرات طرأت على الثقافة، كان لا بد من أن تنعكس على الأدب، فالثقافة على علاقة بالشأن العام، خاصّة حول أحداث تجاوزت عشر سنوات، وما زالت مستمرّة.
تعيش الثقافة زمناً مضطرباً، في منطقة تغلي بالمتغيّرات، بينما الأدب ساكنٌ سكون القبور، مع أنّ ما يجري على صلة وثيقة بالمثقّفين والكتّاب، ورغم أنه يطاول الدول، لكنّها لا تُعنى به إلّا من ناحية إغفاله. ومن المأمول ما دام أنّها لا تهتم به، لكنها تقيم وزناً لفعاليات ينبغي ألّا تهمله، وإن كانت اهتماماتها بها عادة من ناحية المظاهر التي ترتد عليها بالمديح، انشغالها بتمويل الجانب الحضاري، من ناحية تأمين إقامة جيّدة للمدعوين، والحرص على راحتهم ورفاهيتهم.
في حال استعاد النشاط الثقافي عافيته، فليته لا يكرّر نفسه
وإذا كانت هذه اللقاءات الأدبية تخضع للمراقبة، فكما يبدو للحفاظ على الحريات وعدم تعريض سلامة الحضور للخطر أو الانزعاج، مع أن حقوق الانسان لا تُراعَى في هذه البلدان، فتبدو هذه الحفاوة، ولو كانت للتصدير، تعويضاً مجزياً عنها، فيراعيها الأدباء الضيوف، ولا يحرجون البلد المضيف حتى بهمسة، فالتهذيب يستدعي الصمت.
وبما أنّ الرواية تحظى بالنصيب الأكبر من اهتمامات الأدب في هذه اللقاءات الدورية المتنوّعة، فلا بدّ من الإشارة إلى بعض السلبيات من وجهة نظرنا، إذ كثيراً ما صادفتنا هذه العناوين الحصرية في الندوات: الرواية التاريخية، آفاق صناعة الرواية، الرواية والمدينة، الرواية والمعرفة، تحوُّلات الرواية، صناعة الرواية، الإبداع والنقد الروائي... وأشباهها، أو على منوالها، أو هي بالذات تُستعاد من فترة إلى أُخرى. مع أن الرواية تثير الكثير من الموضوعات الشيّقة التي تشقّ على الحصر. ويمكن القول، بالنسبة إلى تبجيل هذا الجنس الأدبي، إنّنا لسنا وحدنا السبّاقين إلى هذا، فالعالم كلّه لا يقلّ عنّا احتفاء به، وإن كان ما يبذله أقلّ من هذا الكرم الذي اشتهر به العرب.
أمّا لماذا الرواية؟ فلأنها الأكثر اتصالًا بالواقع، واقع حياة البشر، ما يتيح الاطّلاع على عوالمهم، وتلك البقع الغامضة في دواخلهم، ليس من الناحية المعاشية فقط، بل يتعدّاها إلى الجوهر المضيء والمظلم، في أعماق النفوس والمجتمعات، والكشف عنها. تُسهم الندوات في التقارب بين الكتّاب، والمشاركة في تبادُل الخبرات بينهم حول العمليات الإبداعية، والاطلاع على ما طرأ من مستجدّات انعكست عليها. فالرواية بالذات يجب أن تكون على صلة لا تنقطع بالمتغيّرات، وليس من العبث إطلاق وصف على الروائيّين برقباء الواقع، يستمدّون منه رواياتهم، فالرواية ليست الفنَّ فقط، طالما الفنُّ نفسه غاية الحياة، أليس الجمال سينقذ العالم، حسب دوستويفسكي؟
تتغافل الندوات الأدبية عن قضايا جوهرية تطرحها الروايات
الملاحظة عن تلك اللقاءات غيابُ الكثير من العناوين التي تستحقُّ التطرُّق إليها، ما دام أنّها تمسُّ حياتنا، فنحن نعيش حياةً واحدة، لماذا لا نهتم بها؟ نحن بحاجة إلى التعبير عنها وعن أنفسنا في هذا العالم، ما دمنا نخوض فيه، ونعيش فيه، ونموت فيه؟ أليس من الأَولى الكتابة عنه؟
في الحقيقة، لم تغفله الرواية، لكن كان نصيبه ضئيلاً فيها، ليس بحجمه في الواقع، غالباً بفعل الرقابة التي يمارسها الروائي في كتاباته خوفاً من رقابات الدول، هل هذا ما يستدعي عدم حضور عالمنا في الفعاليات الروائية؟
ليست المقالات ولا التحليلات ولا الأخبار اليومية، تكفي لنُدرك عمق هذه المجريات المتسارعة، وإدراك النسغ الخفي الذي يمدُّنا بالحياة أو يمدُّنا بالموت، هذا النسغ إن لم يحيا فسوف يتماوت في داخلنا، لماذا تخشاه الرواية وتعتم عليه، ولماذا يُستثنى من الندوات الأدبية؟ فمثلاً لماذا تخلو من هذه العناوين: الرواية والعسكر، الرواية والديكتاتورية، الرواية والاستبداد، الرواية والتطبيع، الرواية في زمن الطغاة، الرواية والمخابرات، الرواية والربيع العربي، الرواية والثورة... ما دام أنّ بلداننا لا تخلو من هذه وهؤلاء؟
الحجّة المعلنة، بعدم التعرض إليها، ولو أنّها عن الحياة والبشر، تعود بالضبط إلى أنها روايات سياسية، عيبها المباشَرة، والخطابات التحريضية، والشكوى ممّا يؤثّر في الوئام الاجتماعي... طبعاً لدى الحكومات الكثير من الحجج والادعاءات الكاذبة، نحن لن نناقشها، فهي قد تمنع ليس أيّ شيء يصادفها، بل كلّ شيء حتى الذي لم يصادفها.
والسؤال، أكلُّ هذا الاستبداد، ولا ندوة عن الرواية والطغيان؟ نعرف أنّ هناك روائيّين يصرّحون بأنهم يهتمون بالرواية، وليس الطغيان. لماذا؟ لأنّ الطغيان سياسة، وليس شأن الرواية.
إذا كان ما يقولونه يقصدونه فعلاً، فالطغيان طاول الرواية.
* روائي من سورية