يسعى التاريخ لفهم الماضي، هذا ببساطة عملُ المؤرِّخين، لكن كم هو معقّد! لِفرْط ما ينتابه من أحوال، فهو يتعرّض لضغوطٍ بين تشديدٍ وتبسيط. ولا ننسى أنّ الأفكار المُسبَقة تتدخّل أحياناً، وانحيازات العاطفة، والمشاعر القومية، وتقلّبات الزمان، تغيّر المفاهيم، ووطأة الحاضر، عدا ما قد يُتّخذ وسيلة للتحريض، ثم هل يمكن إغفال السياسة؟ فإذا كانت فرنسا على وفاق مع ألمانيا، فهذا شيء، وإذا لم تكن فهذا شيء آخر، فماذا لو كانتا في حالة حرب؟ ومثلما تركيا أو إيران اليوم مع العرب، ليس كلّ العرب، بل كلّ دولة على حِدة، فلنتصوّر أن يكتب التاريخ على هديها، أي من هذا العِداء أو التفاهُم وربما التحالُف، فسوف يكون لكلّ دولة عربية تاريخُها مع العثمانيّين الجُدد أو الملالي المسلّحين، ما ينسحب على الإمبراطورية الفارسية والعثمانية، وإن كان سرعان ما يتغير، لأنّ رئيساً صافح رئيساً.
فيبدو التاريخ مهزلة، ليس في بلادنا وحدها، بل في بلاد العالم كلّها، فما بالُنا في التاريخ الذي جمعنا قروناً مع إيران وتركيا، هل كان على وتيرة واحدة؟ لذلك فلننزع يد السياسيين عن المؤرّخين. إنّ في استقلالية المؤرّخ الضمانة الأولى لدراسة التاريخ.
من جانب آخر، هل ينجو المؤرّخ من تسلّط ما يُسَنُّ من القوانين أو ما يُشبهها؟ لا تجبُ الاستهانة بما يُفرض على المؤرِّخين من قوانين تشكّل رأياً رسمياً في الحوادث التاريخية، كما نلاحظ في ما أثارته منذ بضع سنين دعوةُ مجموعة من المثقّفين الفرنسيّين إلى إلغاء القوانين التي تختطُّ موقفاً فرنسياً رسمياً من بعض الحوادث، فالقانون الذي يُقرُّ بوقوع إبادة جماعية بِحَقّ الأرمن، جعل المثقّفين يتحفّظون عليه رغم تأييدهم لمضمونه، لكنه لا يخوِّلُهم التمييز بين أنواع الإبادة الجماعية.
لا تاريخ نهائياً، بل هو عبارة عن عملية مستمرّة أبداً
كذلك تتناول بعض القوانين وقائع تاريخية يُجزَم بحصولها، على غرار "قانون غيسو" الذي يمنع التشكيك في حصول المحرقة اليهودية، كما تحكُم قوانين أُخرى على الوقائع، على غرار القانون الداعي إلى التنويه بالجوانب الإيجابية من الاستعمار الفرنسي، ما ينسحب على المرحلة الاستعمارية برُمّتها، وعرض الجوانب الإيجابية لها بخصوص أن المستعمِرين كانوا رُسلَ الحضارة والدين والتقدّم، وقد يُشتطُّ ويذهب إلى تسويغ المُتاجرة بالرقيق. إن القاسم المشترك بين هذه القوانين هو إملاؤها على المؤرّخين ما يجب التقيد به، وإلّا فتجريمهم في المحاكم.
تزعم هذه القوانين إعادة النظر في أعمال المؤرِّخين، بالعمل على ترشيدها نحو الصواب، تحت عناوين مُضلِّلة كالدفاع عن مأساة شعوب وحقوق البشر، ما يَحُول دون وقوع هذه المآسي في غياهب النسيان، أي إنها تعمل على صناعة الذاكرة. فبينما التاريخ يسعى لفهم الماضي، تأتي القوانين لتسهم بتشكيل الذاكرة، ذاكرة لا تُمسُّ، وعلى أنها التاريخ. ماذا لو كنّا نعمل على إنشاء ذاكرة جمعية زائفة؟
المُقلق في الوصاية على التاريخ من قبل حكومات تصدر قوانين، تمنحها صلاحية العبث بالتاريخ من خلال تراكم الوصايا، وإن نظرنا إلى تلك الحكومات التي لا تهمّها الأمانة بقدر تصدير تاريٍخ يتلاءم مع مصالح آنية، ربما كانت إنسانية، ولا يُستبعد تحيُّزها طبعاً، ما يُملي على المؤرّخين التحرّي عن الحقيقة، وإلا أُضيف تزوير إلى التزوير.
اليوم، ما الذي ستفعله الحكومات البوليسية والشعبوية بشأن ما سيتحوّل إلى تاريخ يُكتب، ليس إلّا لتكريس وجودها وإضفاء البراءة على جرائمها، ما دامت بمعزل عن الحقائق التي تتعارض مع وجودها، ما يؤكّد مجدّداً المقولة المتداولة: "إن التاريخ يكتبه المنتصرون"، ولو أنه سيأتي بعدهم منتصرون آخرون، المشكلة أنهم يتركون وراءهم ذاكرة مشوهة. ما يُعزّز أنه لا تاريخ نهائياً، التاريخ عملية مستمرّة.
* روائي من سورية