بعضٌ من أنتويرب

05 ديسمبر 2024
مشهد من مدينة أنتويرب البلجيكية (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- مدينة أنتويرب تحت سيطرة إله المال، حيث تتجلى في شوارعها ومكاتبها مظاهر التفاهة والاقتصاد الملتوي، وتغرق في كآبة الحياة اليومية الرمادية، مما يجعلها تحتفل بالكلمات كوسيلة لتقليل جو الرغبات.
- اللاجئون في أنتويرب يواجهون تحديات الاندماج في مجتمع مادي يضغط عليهم ليصبحوا جزءًا من ماكينة الاقتصاد، بينما يظل الانفتاح على الآخر الأبيض مصحوبًا بمزيد من الجرح والنقص.
- الكتابة عن الفنانين اللاجئين غالبًا ما تكون سطحية، حيث يتم تناولهم كمواضيع للعرض بعيدًا عن أدبهم وثقافتهم، مما يعكس نظرة محدودة وغير أكاديمية.

كيف نصف الطاقة الأساس لمدينة أنتويرب؟ كالتالي: حاكمها الأعلى: إله المال. وهي عبارة عن خلاصة وافية من التفاهة والالتواء والتعكر الاقتصادي. بيد أنها نادراً ما تتحوّل في آناء ليلها، إلى استيلاء هلوسة على بعض مكونات الخيال العلمي من الدرجة الثانية، دون عقرب عملاق، أو سمكة قرش.

في شوارع نخبتها ومكاتبها المخفية، تفهم أن العالم فقد بلّورته، بعد فقدان بكارته منذ أحقاب. لا معروضات في فتارينها، غير المعادن النادرة وأجساد بائعات الهوى الغريبات. كيفية العلاج؟ لا علاج إلا بروح السخرية السوداء والإحساس الجذري بالجنون، وتروّي الهراء، كما لو كان تجربة علمية وليس حدثاً غير عادي ـ ولكن: من يقدر على ذلك، حتى لو فعل الكاتبُ ذلك بعصيانه للمخططات القائمة. وحتى لو أصبح الاستحضار بمثابة إعادة بناء حسية، في نفس الوقت الذي يعمل فيه بمثابة حصار لأصول المرء وإطار مفاجئ لقصة غير متوقعة؟

أنتويرب في أغلب الليالي، تستيقظ متعبة من نعاسات مليئة بالكوابيس، ويمكننا بالفعل أن نتنفس تلك الكآبة التي تثيرها الفخاخ المبتذلة للحياة اليومية الأكثر رمادية إذ يجلبها التبصر في اللغز اللاينفد. هي مدينة تزخر صفحاتها بالمطبوعات أو التأملات التي تتطلب قراءات ثانية. باختصار، احتفال بقدرة الكلمات على دعم الواقع لتقليل جو الرغبات.

نادراً ما يكتب الأبيض عن فنانين لاجئين إلا باعتبارهم موضوعاً

مذ سكنتها أحاول معرفة ما الظروف المحيطة بها، وما الوجه الذي تحمله روحها، وما هي أسماء الهموم التي تغمرها وتجعلها خرقاء: لعل هذه هي إحدى الفضائل الأخرى لعين الغريب المحايد: قدرته ربما على إثارة انتباه الغافلين من سكانها، من خلال الكشف عن تشويق الجهد النفسي العالي، وإظهار كيف يخترق الواقع داخل الشخصيات لينتهي به الأمر، في النهاية، إلى تشويه حامليها الغُفل اللامتناغمين.

وقبل أن ننهي نسأل: ما خطب لاجئها من الشرق، حين يراها في الأوقات الأولى من اللجوء؟ سوف تراه يلعب مع الانبهار المعاصر، في حلقة ضيقة، تتلوها، بتعاقب الأيام والليالي، خيبات جمّة.

المهم: نحن نعيش في عالم مادي، لكننا في الواقع لا نجمع أشياءً، بل مفاهيم مجردة مثل الثروة والشعور بالسيطرة والقوة اللامحدودة، والتي تبعدنا عن كل ما هو إنساني.

الأهم: نحن نعيش في مدينة مسعورة بالمستقبل، بعيدة عن فكرة الزوال، ولهذا نتعب بشكل مكثف.

الأكثر أهمية: يضغطون علينا كي نندمج. الاندماج عندهم يعني تحويل اللاجئ إلى ترس في ماكينة الاقتصاد الرهيبة. أما عندنا فلا معنى له سوى الانفتاح على الآخر الأبيض، والتماهي معه في ما يفعل ويأكل ويعيش ويحلم، وكل هذا  يعني الانفتاح على مزيد من الجرح والنقص.

دائماً من وجهة نظره الخاصة، وليس من الناحية الأكاديمية على الإطلاق، يكتب الأبيض عن الألوان، وعن عمليات النقل من ضفة إلى ضفة، ما بين الفن والأدب، ونادراً ما يكتب عن فنانين لاجئين، إلا باعتبارهم موضوعاً، مادة للعرض، بعيداً عن أدبهم وثقافتهم وطرق التمحيص النقدي فيها.


* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا

موقف
التحديثات الحية
المساهمون