ليس من السهل أن نغوص في كتاب "بنات آوى والحروف المفقودة: عن الحيوانات الناطقة في لحظات الخطر"، الصادر حديثاً عن "دار الكرمة"، للكاتب المصري هيثم الورداني (1972). بل ليس من الصواب أيضاً، ربّما. لأن الغوص فيه مغامَرة وعِرة، لكنّها مُدهشة. فالكتاب أعقد من قدرتنا على تفكيكه وتحليله والإحاطة به في هذه العُجالة، وإنْ كان يُثير الدهشة والحماسة في قراءة فصوله. ليس فقط ببلاغة التعبير والتحليل والدَّرس، بل لأنه عصيٌّ على التصنيف بوصفه مزيجاً فريداً لأجناس كتابية مُتعدّدة.
القِصص القصيرة التي تخلّلته هي جزءٌ أصيل من أعمال الورداني القصصية. بل هي مشروع يُحاول - في ما يبدو- أن يستكمل فيه مشوار عبد الله بن المُقفّع على خلفية كتاب "كليلة ودمنة" الذي ترجمه إلى العربية، وضمّنه باباً ثانياً لم يكن موجوداً في النسخة السنسكريتية أو الفهلوية، والتي رجّح الكثيرون أنّه بابٌ من تأليف المترجِم نفسه. أو ربّما باب حُذف من النسخة السنسكريتية والفهلوية لاعتبارات غامضة، وهو ما استُبعد كاحتمال عند الكثير من الدارسين. بل ينضمّ الورداني إلى تغليب احتمال أنه من تأليف ابن المقفّع، عبر تقديم الشواهد والأسباب الكامنة التي دفعت صاحب "رسالة الصحابة" لهذا التأليف كنوع من خرافة تجدُ مادّتها في الواقع المُضطرب الذي عاش في عصره. كمحاكاة ربّما من الورداني للعصر المضطرب الذي نعيش.
عَجْماوات تشقّ بألسنتها جِرَاحاً في اللغة وجدار السلطة
لذا نجد الورداني يشرح ويُحلّل ويُفكّر بكتاب "كليلة ودمنة"، لكونه يصدر دائماً في لحظة خطر في مُنعطف تاريخي بالغ الدلالة عن حاجتنا لمُساءلة السلطة وأبديّتها، ولزعزعة ما هو سائد وقائم، وقطع مساره التاريخي عبر ألسنة حيوانات أو كائنات خرافية لا تنطق في الوضع الطبيعي. لكنَّها تفعل في لحظة خطر لمُنعطف تاريخي تتكلّم فيه العجماوات (بنات آوى وغيرها من الحيوانات) بألسنة الجميع من بشر وحيوانات وكائنات، وتُحدِث قطيعة مع الماضي، كي تكسر أبديّة السلطة وصمت التاريخ، وتفتح بألسنتها المشقوقة جراحاً وتصدُّعات في "اللغة" بوصفها تجسيداً لهذه السلطة الأبديّة.
وهو ما فعله ابن المقفّع في الباب الثاني من كتابه، تحت عنوان "فحْصُ ما جرى بأمر دمنة"، بعدما وشى دمنة بالثور شرتبة في مكيدة دفعت الملك الأسد لقتله. كانت الوشاية سعياً من دمنة للتقرُّب من الأسد والانضمام لبطانته، عوض البقاء على بابه ينتظر أن يلتهم ما تبقّى من فضلات الأسد بعد التهامه الفريسة، كجزء من التحايُل على التراتُبية التي تقوم عليها السلطة الشمولية حين تدفع برعاياها إلى الهامش، وتحتلّ هي المركز والموارد وأبديّة الهيمنة على الحُكم. فيما كليلة (أخ دمنة) الحكيم لا يُوافقه باتّخاذ طريق الحِيلة والخديعة والتقرّب من السلطة، ليتمكّن من ردم المسافة في التراتبية البغيضة. بل يعتقد كليلة أنّ التقرّب من السلطة (الأسد) مفسدة، وتتسبّب بالهلاك لبني جنسه من بنات آوى.
حين ينجح دمنة في الكيد للثور والتخلُّص منه والتقرُّب من الأسد، يختفي كلٌّ من كليلة ودمنة من الكتاب بنسختيه السنسكريتية والفهلوية، لكن يظهر الباب الثاني في النسخة العربية، كترجمة مزعومة لباب هو تأليفٌ يلقى فيه دمنة عاقبة الوقيعة التي اقترفها بحقِّ شتربة، ويزجّ به الأسد في السجن مع أخيه كليلة حيث يلقيان صنوفاً هائلة من التعذيب. ويرى الورداني في تأليف ابن المقفّع للباب الثاني صِنْو الترجمة وأنهما لا يتعارضان. بوصف الترجمة صوتاً داخل صوتٍ آخَر قادم من الماضي كي يرثه في الصوت الجديد، فيما التأليفُ يلجأ للاقتباس ويفتح أصواتاً في صوت آخَر قادم من الماضي كي يرث المستقبل.
كما يشرح الورداني ما حصل مع الباحثة والكاتبة رنا عيسى في مقالتها "خاتم ازدهار"، ضمن مشروع "أمّيات". حين تلجأ للانتقام لجدّتها ازدهار "الأمّية"، من الظُلم الذي ألحقه بها المجتمع الذكوري عبر وراثة ألَم الجدّة "الأمّية" وماضيها المُخزي. وتدخل في جدَل العلاقة بين الأمّية والأمومة والأمّة، لتُفضي بها النتائج إلى وراثة ابنتها (المستقبل)، حين وصلت للنرويج وعاشت فيها كأمّية إلى أن تعلّمت اللغة النرويجية على يد ابنتها، كما فعلت والدتُها حين أصدرت أوّل رواية لها في عُمر متأخّر، بعد أن وفّرت لِبَناتها إمكانياتٍ لم تكُن تتوفّر لهن، كي يَصِلنَ إلى أعلى مراتب في التعليم، فكان أن تعلّمت الأمّ من بناتها "الكتابة" مجازاً، كي لا تعيش مصير أُمّها.
يتجاوز النقد الأدبي إلى التنبيه عن لحظة خطر نعيشها
لذا يرى الورداني أنّ العَجْمَاوات حين تتكلّم فذلك لإحداث قطيعة مع الماضي - حين لم يتمكّن البشر من إسماع صوتهم - وكَسْر قيود اللغة التي تُجسّد ما هو سائد وقائم ومستقرّ، سعياً لوراثة المُستقبل وقلب الأمور رأساً على عقب، في مُحاولة لكسر أبديّة السلطة وزعزعة استقرارها. فنطقت العَجْمَاوات وفتحت شقوقاً في اللغة المُنغلقة على نفسها.
بدأ الورداني فصله الأول بقصّة قصيرة من تأليفه "في المكان الخطأ"، حين يستعير راوي القصة يدَ ابن المقفّع المبتورة ويُلصقها بيده العاجزة عن الحركة بعد حادث عمل عنيف، فإنّما هي صوتُ ابن المقفّع قادم من الماضي في مُنعطف تاريخي يُشكّل لحظة خطر، كي ما يرث المستقبل عبر إحداث القطيعة مع هذا الماضي الذي يتأبّد باللغة والكلام. فالخُرافة في قصصه استمرارٌ للوظيفة التي يتشكّل منها الأدب، ويتّكئُ عليها حين يكون الواقع مادّتها بما هو (الأدب) وظيفة اجتماعية، بحسب الناقدة اللبنانية يُمنى العيد.
في الباب الثاني من "كليلة ودمنة" - غير الموجود في النُّسخ السابقة للترجمة العربية - نوعٌ من التأليف صِنْوٌ للترجمة لا نقيضها. حيث يستكمل فيه الكاتب الغرضَ من الترجمة لنقد الواقع في لحظة تأسيس الخلافة العبّاسية، وتوسُّع رقعة الفتوحات إلى بلاد تتنوّع فيها الأعراق والأجناس واللغات، حيث اللغة العربية ليست وسيطاً تحتفظ بنقائها، بل مجالاً للتفاوض على الواقع. في تلك الفترة تشتدّ النزاعات بين أبي جعفر المنصور الذي يخلف أبا العباس السفّاح الخليفة العبّاسي الأول - بعد زوال الدولة الأموية وانتصاره عليها - وبين أعمامه. عاصَر ابن المقفّع الدولة الأموية ككاتب في ديوان أحد وُلاتها، هو الفارسي الأصل الضليع باللغة العربية التي كانت لها أولويّة في فترة حُكم الأمويّين. ثمّ ما لبث أن عمل كاتباً في ديوان عيسى بن علي عمّ المنصور الذي أوكل إليه كتابة "كتاب الأمان"، فوجّهه للمنصور وضمّنه شروطه.
وما كان من صاحبنا إلّا أن بالغ بهذه الشروط فكتب للمنصور: "متى غَدر أميرُ المؤمنين بأعمامه، فنساؤه طوالق، ودوابّه حُبُس، وعبيدُه أحرار". ممّا أوغر صدر المنصور على ابن المقفّع الذي كتب أيضاً "رسالة الصحابة"، ووجّهها للخليفة من غير أن يُسمّيه، انتقد فيها نظام الحُكم وسياسة الوُلاة والخِراج وحال الجُند وتَرْك أمر القضاء للقُضاة واجتهادهم، وأسهب في انتقاد فساد القضاء الذي يُصدر في حالات مُتشابهة أحكاماً متناقضة. ولم يبرح ابن المقفّع أمرَ السلطان والحُكم، بل أسهب فيه بكتاب "الأدب الكبير والأدب الصغير"، ولن يُجانبنا الصواب إنْ أدرجنا ترجمته لـ"كليلة ودمنة" ضمن هذا الاهتمام. الترجمة التي لم يطلبها منه أحد على ما هو مُتواتر".
عملٌ يمزج بين الأجناس الأدبية ما يجعل تصنيفه عَصيّاً
كانت الكتابة في الديوان وظيفة تنظيمية يكتب فيها الكُتّاب ما يُمليه عليهم الحاكم. لكن تبدَّلت وظيفة الكتابة مع ابن المقفّع حين صار يكتُب ما لم يُطلب منه. ونطقت العَجْماوات في "كليلة ودمنة" في لحظة خطر. بيد أنّ "اللغة التي نطقت بها كانت هي لبّ الصراع الاجتماعي آنذاك مع اتّساع رقعة الإمبراطورية الإسلامية، وضمّها شعوباً وأقواماً مُختلفة. فالعربية شكَّلت جبهة أساسية للصراع بين العرب وغير العرب، وخطّاً مُلتهباً من خطوط الاحتكاك الاجتماعي، المُستَتر تارة والمُنفجر تارة أُخرى. ابن المقفّع، الأعجمي الأصل، العربي اللسان، سمع العجماوات تنطق العربية، فجعل مُتحدّثيها البشر يصمتون ليسمعوا ما لديها لتقوله".
وبذلك لم تعُد اللغة العربية حدّاً فاصلاً بين ناطقيها وغير ناطقيها، بل مجال تفاوض لا يستبعد حتى الحيوان. ولعلّ الأوان قد آن، برأي الورداني، لتعديل التعريف الدّارج للخُرافة بوصفها الجنس الأدبي الذي يتكّلم فيه مَن لا لسان له. "فالعجماوات لا يتكلّمن فحسب، بل إنّ لها طريقة مُحدَّدة في الكلام، وهي الاقتباس، أو بالأحرى الإفراط في الاقتباس، فكلام غير البشر لا يُقتبس مرّة أو اثنتين، بل عشرات المرّات. عندما كان الغوّاص في السجن، زاره صديقه اللوّام، واختلفا حول ما الذي يتعيّن على الغوّاص عملُه للخروج من محنتِه. وفي حوارهما هذا تبادلا نحو ثمانية عشر اقتباساً، مُوزّعة بين حكاية وحكمة وخبر وأبيات شعر. الاقتباس هو لُغة العجماوات الحقيقية. كلامها هو كلام داخل كلام، وليس مجرّد كلام. وما يجعل الاقتباسات في الخُرافة مختلفة عن غيرها في باقي الأجناس الأدبية، هو أنّها، هنا، ليست مُجرّد مضمون يُمكن أن يُثبت أو ينفي حجّة، وإنما هي شكلٌ في المقام الأول. شكلٌ متناقض. طريقٌ التفافية تقطع طريق القصة الرئيسية. الاقتباس هو التجسّد الأدبي لحِيلة اللجوء إلى طُرقٍ التفافية، وهي الحِيلة التي لا يلجَأ إليها إلّا من سُدّت في وجهه جميع الطُّرق المباشرة للحصول على ما يُريده. هذا هو برنامج العمل الذي تقترحه الخُرافات".
حين قطع السجّان في "كليلة ودمنة" أنياب العاج من فم كليلة ودمنة إنما كان يعمل على إخفاء حروف العلّة ـ التي يُطلق عليها الحروف الصوتية أيضاً ـ بوصفها أصواتاً تصدر من القلب، بينما الحروف الساكنة تصدر من العقل. فالعاج هو روح عالم آفل يُدعى "عالم ما قبل التاريخ". لم يعد يظهر اليوم إلّا في صورة صلبة. إذ ينمو من الأفواه، وتبرز أنيابُه وكأنّها حروف لغة قديمة لم تعُد مفهومة. لكن هناك صورة أُخرى للعاج لم يعُد أحد يعرف عنها شيئاً، وهي الصورة السائلة التي يوجد عليها العاج في آذان الأفيال. فالعاج السائل هو ما يجعل حاسّة السمع لديها مُرهفة. هو ما يجعل الكلام مسموعاً ويحمي حروف العلّة (الصوتية) من الفُقدان داخل اللغة التي انغلقت على نفسها حين تأبّدت السلطة. لكن يبقى ثمّة احتمالٌ في إيجاد حروف علّة جديدة من داخل الحروف الساكنة، كي تتصدّع اللغة ويبزغ المسكوت عنه في الكلام. لهذا نطقت العَجْماوات في حالات نادرة لتُعوِل وتصرخ - وليس على يد ابن المقفّع وحده - حين تنشأ لحظة خطر في منعطف تاريخي مضطرب.
لهذا يمكن القول إن كتاب "بنات آوى والأحرف المفقودة" عمل جديد ومُدهش، وليس شرحاً أو نقداً أدبياً بليغاً فقط، بل تنبيهاً للحظة الخطر هذه التي نعيش، يتخطّى النقد الأدبي لـ"كليلة ودمنة"، وينتقم لابن المقفّع. ربّما ليرث الورداني هذا الماضي المُغرق في القِدَم، كي ما يرث المستقبل، حين نجده يُغرق في الاقتباسات داخل اقتباسات، وكلام داخل كلام قادم من الماضي، ويسير إلى المُستقبل بخُطىً واثقة ليؤسّس أحرف علّة جديدة من الحروف الساكنة في اللغة الراكدة، ليملأها بالتصدُّعات ويتسلّل منها نحو لغةٍ تُصارع الاستبداد وتصرعه.
* كاتبة وصحافية فلسطينية