مع بدء العدّ التنازلي لمئوية إعلان الجمهورية التركية في صيف العام القادم، وما مرّت به تركيا الجمهورية من تقلّبات إزاء إرثها العثماني باعتبارها وريثة الدولة الأطول عمراً بعد الإمبراطورية البيزنطية، ما بين الانفكاك القسري عن العثمانية أو الحنين لها لاعتبارات سياسية جديدة، لا يزال الاهتمام متواصلاً برموز أو روّاد هذا الانتقال التاريخي المهمّ الذي كان له أثره على الشعوب الموجودة في الدولة العثمانية. ومن هؤلاء الرموز أو الروّاد شمس الدين سامي، كما هو معروف في العالَم العثماني - التركي، أو سامي فراشري، كما هو معروف عند الألبان (1850 - 1904)، الذي استثار عشرات المؤرّخين للبحث في ما كتبه وتأثير ذلك في الرأي العام في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
ولدينا من ذلك الكتاب الذي صدر عام 2021 عن "المعهد الفرنسي للشرق الأدنى" في عمّان، بالتعاون مع دار "الآن ناشرون"، بعنوان "شمس الدين سامي فراشري: تشابُك العثمنة والقومية والإسلام"، الذي يضمّ مجموعة من الدراسات التي كتبها عددٌ من الباحثين الأتراك والغربيّين والعرب حول نتاج هذه الشخصية المهمّة وتأثيره في مسار التحوّل من العثمانية الموروثة إلى بديل يقوم على هويات قوميات ودولة دستورية.
ويبدو أن البحث في تراث هذه الشخصية لا يزال مغرياً للجيل الجديد من الباحثين، وخاصة لكونه متعدّد الاهتمامات الفكرية والأدبية واللغات التي كان ينشر فيها: العثمانية والألبانية والعربية، وهو يحمل جديداً مع كلّ اكتشاف لمخطوطة كتاب أو لمقالات غير معروفة. ومن ذلك لدينا، أيضاً، ما صدر مؤخّراً عن "معهد الدراسات الشرقية" في بريشتينا، بعنوان "دفاتر سامي فراشري"، للباحثة زكية جافتشه من قسم الاستشراق في "جامعة بريشتينا".
دعا مبكّراً إلى تضامن إسلامي بوجه التهديد الأوروبي
والجديد في هذا الكتاب أنّ الباحثة اعتمدت هنا على أربعة دفاتر مخطوطة لشمس الدين سامي محفوظة ضمن مخطوطات أُخرى مهمّة له في "المكتبة الوطنية الألبانية" بتيرانا، وبالتحديد على ترجمته الأُولى لكتاب "كوتادغو بيليغ" ("معرفة النعمة" أو "علم السعادة")، الذي كان لكَشْفه ونشره في ألمانيا عام 1870 صدىً كبيرٌ، وعلى مؤلَّفَين غير مكتملَين له؛ الأوّل بعنوان "الاتحاد الإسلامي"، والثاني بعنوان "ماضي وحاضر ومستقبل الأمم الإسلامية". ومن الواضح أنّ هذه الإسهامات تعبّر عن فترات مختلفة في نشاطه وأفكاره، ولذلك تقول المؤلِّفة إنها تناولته في مجالَين مختلفَين: كعالم لغوي وناشط سياسي.
وفي الواقع كان شمس الدين سامي معنيّاً في الفترة الأُولى بالهوية العثمانية والإسلام، في مواجهة الحملة الغربية المسلّحة التي أخذت تقرض العالم الإسلامي بالتدريج من الهند إلى بلاد المغرب، وهو ما عبّر عنه في عدّة مؤلّفات سواء في العثمانية: "المدنية الإسلامية"، أو في العربية: "همّة الهمام في نشر الإسلام". بينما نجد في المرحلة اللاحقة تفكّك الهوية العثمانية إلى هويات قومية؛ التركية والألبانية والعربية والتي تصارعت في ما بينها لاحقاً. وفي هذا السياق وضع مؤلّفات معجمية ("قاموس فرنسي - تركي"، و"قاموس تركي - تركي")، وكتب مقالات دعا فيها إلى اعتماد التركية الأصلية عوضاً عن العثمانية (المختلطة مع العربية والفارسية)، واعتماد الأبجدية اللاتينية أساساً للهوية القومية التركية، وهو ما تحقّق لاحقاً بعد وفاته عام 1904.
وهكذا نجد من الفترة الأُولى مسوّدات كتابين له: "الاتحاد الإسلامي"، و"ماضي وحاضر ومستقبل الأمم الإسلامية"، التي يبدو أنه كان يعدّها لسلسلة "مكتبة الجيب" التي أسّسها وأصدر فيها كتاب "المدنية الإسلامية" عام 1884. ولكن يبدو أن شمس الدين سامي كان يشتغل في الوقت نفسه على عدّة مؤلّفات حتى يغطّي الإصدارات الدورية لـ"مكتبة الجيب"، كما أن انتقاله من فترة العثمانية والإسلام إلى ما بعدها، مع تزايد انتقاده للحُكم الفردي للسلطان عبد الحميد الثاني، لم يعُد يسمح له بمتابعة العمل في هذين الكتابين وإصدارهما. ولكنَّ نَشْر هذه الدفاتر الآن يُساعد على فهم بعض الأفكار أو الأطروحات الريادية لشمس الدين سامي، التي قد نجد صداها الآن في ما يسمّى العثمانية الجديدة.
تحوّل للدفاع عن هويات الشعوب المكوّنة للسَّلطنة
ففي الكتاب الأوّل: "الاتحاد الإسلامي"، الذي يعود إلى عام 1881، نجد مقاربة جيّدة لهذا الموضوع (التضامن بين المسلمين لمواجهة التهديد الأوروبي)، تحت هذا العنوان الذي استخدمه الشاعر والكاتب نامق كمال لأوّل مرة في جريدة "حرييت" في العاشر من أيار/ مايو 1869، والذي شاع في الغرب باسم "الجامعة الإسلامية". وفي هذا الدفتر المخطوط لدينا 18 صفحة بمثابة مقدّمة مطوّلة ثم مسرد الموضوعات التي كان يريد المؤلّف أن يتناولها في كتابه هذا ولكنّه لم يُنجزها. ومع ذلك يمكن القول إن المقدّمة الطويلة كافية للتعرّف إلى أهمّ الأفكار الجديدة التي بلورها شمس الدين سامي في هذا الموضوع الذي تبنّاه السلطان عبد الحميد الثاني وأصبح يرتبط باسمه.
ومن الواضح أن ما خطّه المؤلّف في هذه الصفحات يعبّر تماماً عن الفترة الأُولى، أي العثمنة والرابطة الإسلامية والنظرة المتفائلة إلى السلطان الشاب عبد الحميد الثاني، وما يمكن أن يقوم به لإنقاذ الدولة من الأخطار التي كانت تتهدّدها. ففي هذه الصفحات ينطلق المؤلّف من حرصه على "الدولة العثمانية الخالدة"، التي يرى مستقبلها من خلال الرابطتين العثمانية والإسلامية وسياسة سلطانها عبد الحميد الثاني الذي يسمّيه هنا "خليفة كل الشعوب الإسلامية" و"ظلّ الله".
ومن المُلفت هنا اعتراف المؤلّف بأنه كان ينوي نشر كتابه هذا حول سبُل الخروج من أزمة الدولة العثمانية وإنقاذها من المصير الذي كانت تُدفع إليه، ولكنه آثر أن يوجّهه كرسالة إلى السلطان لأن نَشْر الكتاب يمكن أن يُعيق تحقيق ما يتضمّنه من أهداف. في هذا السياق يستعرض ثلاثة تحوّلات مهمّة قي تاريخ الدولة العثمانية: عهد السلطان محمد الفاتح، وعهد السلطان سليم الأول، وعهد السلطان عبد الحميد. فمع السلطانين الأول والثاني كانت أوروبا في حالة خوف من التوسّع العثماني وفي حالة اعتبار لما وصلت إليه الدولة العثمانية من تقدّم، بينما تحوّلت أوروبا من الدفاع إلى الهجوم وأصبحت طامعة في الدولة العثمانية خلال حكم السلطان عبد الحميد.
ويلاحظ المؤلّف أن مصالح الدول الأوروبية المتضاربة أصبحت تَحُول دون تشكيل تحالف مقدّس ضدّ الدولة العثمانية كما في الماضي. وهنا يأتي دور السلطان عبد الحميد الواعي لذلك - حسب المؤلف - لكي يَحُول دون تشكيل تحالف مقدّس ضدّ الدولة العثمانية، ولا يسمح لأوروبا أن تحقّق ما تريد من مطامع في الدولة العثمانية. والحلّ الوحيد برأيه، هو "اتحاد الشعوب المختلفة التي تعتنق الدين نفسه (الإسلام) لأنه هو الرابطة الوحيدة المشتركة"، وهو ما يعتبره حركة دبلوماسية لإفشال تحالف الدول الأوروبية ضدّ الدول العثمانية، وإيجاد حلّ لإنقاذ الدولة العثمانية من الارتهان لأوروبا.
ولتأكيد ذلك يُقارن المؤلّف بين وجود 300 مليون مسيحي من طوائف مختلفة في العالم مقابل 150 مليون مسلم، ويؤكّد هنا أن الدولة العثمانية بحاجة إلى المسلمين كما أنّ المسلمين بحاجة إلى الدولة العثمانية. ولكنّ المؤلّف يرى هنا أن العلاقة بين الطرفين ليست مثل العلاقة بين صديقين بل هي مثل العلاقة بين الأب وأولاده: "على كلّ المسلمين في العالم أن يحموا هذه الدولة ويخدموها كما يخدم الولد الصالح أباه".
أما في ما يتعلّق بالفترة الثانية، أي التحوّل من الهوية العثمانية إلى الهوية القومية للشعوب المكوّنة للدولة العثمانية، فنجد في أحد الدفاتر ترجمته الرائدة لأحد أعظم كتب التراث التركي التي اكتُشفت في ذلك الحين، ألا وهو "كوتادغو بيليغ" ("معرفة النعمة" أو "علم السعادة")، للفيلسوف والشاعر يوسف خاص حاجب (رحل عام 1077 للميلاد)، واستخلاصاته التي تعبّر، كما تقول المؤلّفة، عن توظيف الدراسات العلمية في خدمة الأيديولوجية.
وكانت مخطوطة هذا الكتاب قد اكتشفها المستشرق النمساوي هامر، ووردت الإشارة إليها لأوّل مرّة في مقالة للمستشرق الفرنسي جوبير عام 1825، بينما ترجمها المستشرق المجري فامبري إلى الألمانية ونشرها في 1870. ونظراً لأن شمس الدين سامي كان يعرف اليونانية والفرنسية والإيطالية والألمانية، فقد كان يتابع ما ينشره المستشرقون الأوروبيون من دراسات عن اللغة التركية وأصولها، ولذلك فقد قرّر ترجمة هذا العمل الشعري إلى العثمانية مع مقدمة (أو "إفادة مرام" كما سمّاها)، أرّخها في 11 ربيع الأول 1320 للهجرة، 17 حزيران/ يونيو 1902، أي في الفترة التي كان فيها محكوماً بالإقامة الجبرية في بيته وممنوعاً من استقبال الزوّار بسبب معارضته للحكم الفردي للسلطان عبد الحميد الثاني.
من أوائل الداعين إلى اعتماد التركية أبجدية لاتينية
والمهم في هذه المقدّمة العِلمية الرائدة (التي تخدم الأيديولوجية القومية الجديدة)، بيانُه عن أن هذا العمل الشعري ليس في "اللغة الأويغورية"، بل في اللغة التركية الأصلية "بالحروف الأويغورية"، ليكشف بذلك عن التاريخ العريق للّغة والثقافة التركية ويوضح الفرق بينها وبين "اللغة العثمانية"، التي ابتعدت عن اللغة التركية العريقة واختلطت بمفردات عربية وفارسية كثيرة كما أصبحت تُكتب بالحروف العربية. وفي هذا السياق ينطلق من أن العادة جرت على تقسيم اللغات والآداب في العالم إلى مجموعتين: عريقة (اليونانية واللاتينية والعربية والفارسية)، وجديدة (الفرنسية والإيطالية والألمانية والروسية وغيرها)، ليسأل عن مكانة اللغة التركية وأدبها.
وهكذا، بعد بيانه عن ابتعاد اللهجة التركية الغربية (العثمانية)، عن اللغة الأم (الشرقية)، يكشف الآن مع ترجمة كتاب "كوتادغو بيليغ" إلى العثمانية أن اللغة التركية في هذا الكتاب حافظت على عراقتها حتى القرن الحادي عشر، كما أنّ عدد الكلمات العربية والفارسية فيها لا يتجاوز الخمسين، ولذلك فإن اللغة التركية وأدبها يستحقّان أن يكونا مع المجموعة العريقة في العالم.
ولا يكتفي شمس الدين سامي برفع مشاعر اعتزاز الأتراك بتاريخهم العريق (الذي سيكون من مكوّنات الأيديولوجية القومية الجديدة)، بل يذهب إلى أبعد من ذلك بالقول إنّ "قواعد اللغة الحالية (العثمانية)، يجب أن تستند إلى قواعد اللهجة المستخدمة في هذا الكتاب"، وهو ما تحقّق لاحقاً، كما تقول المؤلّفة. وعليه فقد تحوّل "كوتادغو بيليغ" إلى "أساس الدراسات المعجمية واللغوية للغة التركية" الحديثة حتى بعد وفاة فراشري عام 1904، وهو ما تعتبره المؤلّفة نموذجاً "للخطاب الذي يدل على كيفية استخدام الدراسات العلمية لأهداف سياسية في نشر الأيديولوجيات". ونظراً لإسهام شمس الدين سامي، الذي أصبح يُعتبر من "آباء القومية التركية"، فقد رفضت تركيا الجمهورية مراراً طلب ألبانيا بنقل رفاته إلى ألبانيا لدفنه إلى جانب أخويه عبدل ونعيم فراشري في قرية فراشر بجنوب ألبانيا، التي تعتبره أيضاً "مؤدلج القومية الألبانية".
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري