سورية 1920 - 1958: إرث دستوري مُلهم للحاضر والمستقبل

15 ديسمبر 2024
من دمشق عام 1920 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تحولات تاريخية في سوريا: شهدت سوريا تحولات مهمة بدءًا من استقلال "المملكة السورية العربية" في 1920، وصولاً إلى انقلاب 1963 الذي أصبح عيدًا قوميًا تحت حكم حزب البعث، مما أدى إلى تغييب ذكرى الاستقلال الأولى.

- الإرث الدستوري السوري: تميزت سوريا بدستور 1920 الذي أرسى نظام حكم مدني ولا مركزي، واستمر هذا الإرث مع دستور 1950 الذي أقر مشاركة المرأة في الانتخابات، لكن احتكار حزب البعث للسلطة غيب الديمقراطية.

- التحديات والآمال المستقبلية: بعد انتفاضة 2011، برزت الحاجة للعودة إلى الإرث الديمقراطي السوري لضمان الانتقال الآمن إلى الحكم الديمقراطي، مع ضرورة مراعاة الدساتير السابقة في صياغة الدستور الجديد.

من مفارقات التاريخ السوري والإقليمي أنّ انقلاب 8 آذار/مارس 1963، الذي شاركت فيه قوى عسكرية متعدّدة (بعثية وناصرية ومستقلّة)، أصبح يُسمّى، بعد تصفيات نيسان/إبريل 1963، "ثورة 8 آذار" بِاسم الحزب الحاكم (البعث). وهكذا بات هذا التاريخ عيداً قومياً على حساب عيدٍ أهمّ هو إعلان استقلال "المملكة السورية العربية" في 8 آذار/مارس 1920، والذي كان يُحتفل به في سورية والأردن؛ باعتبار أنّ الأخير كان ضمن "المملكة السورية العربية" حتى عام 1963.

لم يكن عدد سكّان سورية يتجاوز ستّة ملايين نسمة عام 1963. وتضاعف هذه العدد قرابة أربع مرّات حتى 2011 (أكثر من 23 مليون نسمة)، وأصبح معظم السوريّين لا يعرفون سوى 8 آذار 1963 ورئيسَين فقط خلال 53 عاماً؛ هُما حافظ الأسد وابنه بشّار.

في هذا السياق، كان من الغريب أن تُنظّم جامعةٌ أردنية عام 1988 ندوةً إقليمية لمناسبة الذكرى الثمانين لإعلان "الحكومة العربية" في دمشق عام 1918، والتي تُوّجت بإعلان استقلال "المملكة السورية العربية"، وأن يُنظّم "منتدى الفكر العربي" ندوة إقليمية في عمّان عام 2020، بحضور الأمير الحسن، حول مئوية الاستقلال والدستور السوري الأوّل، بينما لا يُشار إلى ذلك في دمشق التي لم يبق فيها من شاهد على ذلك التاريخ سوى "شارع الملك فيصل"، بعد أن هدم "حزب البعث" في عام 1969 مبنى بلدية دمشق في ساحة المرجة، من دون أيّ اعتبار للقيمة التاريخية لهذا المبنى الذي أُعلن من شرفته استقلال "المملكة السورية" عام 1920.

أرسى دستور عام 1920 نظام حُكم مدني ولا مركزي

كان أهمّ ما حدث خلال عهد "الحكومة العربية" هو انتخاب "المؤتمر السوري" عام 1919، والذي كلّفه الأمير فيصل بوضع دستور للبلاد، وقد تحوّل المؤتمر بعد إعلان الاستقلال إلى مجلس نيابي تطلُب أوّل حكومة بعد الاستقلال الثقة منه. وخلال ذلك، بدأ أعضاء المجلس، منذ 20 أيار/مايو 1920، في مناقشة "القانون الأساسي"؛ أو الدستور السوري المقترح مادّةً مادّة، بعد أن رُفض الاقتراح بالتصويت عليه دفعة واحدة لوضع "عصبة الأمم" أمام الأمر الواقع، بعد أن قرّرت وضع سورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي. كانت النخبة السورية، آنذاك، تعتقد أنّ إعلان الاستقلال واعتماد دستور سوري متقدّم يحمي الأقلّيات، سيقطع الطريق على أيّ تدخُّل من الخارج بحجّة "حماية الأقلّيات".

أثار ذلك انزعاجاً فرنسياً؛ إذ هدّد الجنرال هنري غورو بالتقدّم نحو دمشق، بينما تابع أعضاء المؤتمر السوري مناقشة بنود الدستور السوري حتى 17 تمّوز/يوليو 1920، أي حين اقتربت القوّات الفرنسية من ميسلون؛ حيث جرت المعركة المعروفة في 24 تمّوز/يوليو من ذلك العام، والتي كرّست الاحتلال الفرنسي باسم "الانتداب". ولذلك، فإنّه ليس مستغرباً - كما كشفت المؤرّخة الأميركية إليزابيث ف. تومبسون في كتابها "كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب: المؤتمر السوري في عام 1920 وتدمير التحالف التاريخي الليبرالي - الإسلامي فيه" (أصدر "المركز العربي والأبحاث ودراسة السياسات ترجمته العربية عام 2022) - أنّ القوات الفرنسية التي احتلّت دمشق كانت مكلَّفةً بالسيطرة على مقرّ المؤتمر السوري ومصادرة كلّ ما فيه من وثائق، بهدف تغييب هذه التجربة الرائدة في وعي السوريّين.


استعادة الإرث الدستوري

مع تطوّر الحركة الوطنية المناهضة للانتداب الفرنسي، برزت توجُّهات ملكية وجمهورية، إلى أن حُسم الأمر في دستور 1928 (الذي أقرّه المفوّض الفرنسي عام 1930) باختيار النظام الجمهوري. وبالاستناد إليه، جرى انتخاب محمد علي العابد أوّلَ رئيس للجمهورية عام 1931. ومع إعلان استقلال سورية عام 1943، أُجريت أوّل انتخابات في صيف 1943، وفاز فيها شكري القوتلي بموجب الدستور نفسه، ثمّ أُعيد انتخابه مرّةً ثانية عام 1947. وبعد سلسلة من الانقلابات العسكرية، جاء دستور 1950 الذي اعتُبر الأحسن لعدّة اعتبارات؛ منها إقرار مشاركة المرأة لأوّل مرّة في الانتخابات.

ولكن بعد عدّة سنوات من ذلك، غمرت سورية "الدساتيرُ المؤقّتة" التي بدأت خلال عهد الوحدة مع مصر (1958 - 1961)، ثمّ بعد احتكار "حزب البعث" للسلطة؛ حيث صدر الدستور المؤقّت الأول عام 1964، والثاني عام 1969، والثالث عام 1971، بينما فُصّل الدستورُ الرابع عام 1973 لإعطاء حافظ الأسد صلاحيات مطلقة لا حدّ لها، وتكريس "البعث" باعتباره "القائد في الدولة والمجتمع"؛ إذ يحصر الدستور في القيادة القُطرية للحزب حقَّ ترشيح من تراه مناسباً، ومن ثمّ يجري الاستفتاء على هذا المرشّح.

أقرّ دستور 1950 مشاركة المرأة لأوّل مرّة في الانتخابات

وبعد اندلاع الانتفاضة الشعبية عام 2011، جرت محاولة لاحتواء المعارضة بإجراء تعديلات في 2012 على دستور 1973؛ فأُلغيت المادّة الثامنة التي تؤكّد دور "البعث" بوصفه "القائد في الدولة والمجتمع" واستُبدلت بـ"التعدّدية السياسية". لم تمسّ هذه التعديلات جوهرَ النظام الحاكم، ولم تُقدّم جديداً في واقع الحال.

وبدا هذا واضحاً في سلوك النظام مع قرار مجلس الأمن رقم 2254، الذي رسم خريطة طريق واضحة للانتقال السياسي كان يمكن أن تُجنّب البلاد كلّ المآسي التي لحقت بها خلال عشر سنوات (2015 - نهاية 2024). والآن مع سقوط هذا النظام، ولضمان الانتقال الآمن إلى الحكم الديمقراطي، لا بدّ من إعلان واضح بالالتزام بمخرجات هذا القرار الدولي الذي يعطي مصداقية للحكم الديمقراطي الجديد في سورية أمام العالم.


العودة إلى الأصل

في هذا السياق، يحقّ للسوريّين أن يفتخروا بما لهم من إرث ديمقراطي، خصوصاً دستور 1920 الذي أرسى قاعدتَين مهمّتين حتى اليوم: تتمثّل الأُولى في نظام حُكم مدني بحسب البند الأوّل (حكومة ملكية مدنية نيابية عاصمتها دمشق الشام ودين ملكها الإسلام)، والثانية في نظام حكم لا مركزي لضمان تمثيل الأقلّيات وتمكينها من الحكم المحلّي في مناطقها.

ولأجل ذلك، نصّ الدستور على أنّ العلاقة بين الدين والدولة تتمثّل فقط في دين رأس الدولة (الملك فيصل). أمّا في ما يتعلّق بالأقليات، فقد قسّم البلاد إلى مقاطعات وحدّد مساحة وعدد سكّان كلّ مقاطعة في الحدّ الأدنى، وجعل البرلمان يتألّف من غرفتين: مجلس النواب ومجلس الشيوخ الذي يعيّن رأسُ الدولة نصفَ أعضائه، ويُنتخَب النصفُ الآخر في المقاطعات، وجعل لكلّ مقاطعة مجلساً منتخباً وحكومة محلّية.

ومن هنا، يُفترض باللجنة المختصّة التي ستتولّى وضع الدستور الجديد (كما يرشح من التصريحات) أن تأخذ بعين الاعتبار هذا الإرث الدستوري الغني لسورية، ابتداءً من أفضل دستور عربي وُضع في 1920 حتى دستور 1950 الذي اعتُبر إنجازاً مهمّاً في وقته، وأن تضمن آلية التصويت عليه مشاركة غالبية السوريّين.


* مؤرخ وكاتب كوسوفي سوري

المساهمون