رافعًا رأسه، سعيدًا وخاليًا من الهموم مشى صالح إلى بيته بعد أن قدّم استقالته من عمل أمضى فيه ثلاثين عامًا. داعب أوراق الشّجر القليلة التي صادفها في شوارع المدينة، انتبه إلى الطّيور، ابتسم للعابرين الذين كانوا يبتعدون عنه صارخين مغمضي عيونهم لاعنين ومستغفرين الله.
صالح الذي جاوز الخامسة والخمسين، الذي يشكو من ألم دائم في عينيه ورقبته وأكتافه، والذي لم يجد أحدًا يدلّكها له بعد هجرة ولديه ووفاة زوجته، ولا يستطيع أن يدفع مقابل جلسة مسّاج قد تريحه. نظر إلى صور المرشّحين للانتخابات غير مصدّق، لقد كبر وهذه الوجوه معلّقة في السماء. رأى لوحة إعلانيّة لامرأة تبتسم وهي تعرض فوق فخذها مُسمِّرًا، خطر له أنّ العالم منقسم بين عُريين: عُريٌ وقح يمارسه سياسيو هذا العالم على طريقة الحرباء، يتكلّمون بالحقّ ويفعلون الأباطيل. وعري مخدِّر مُشتهى يثير غريزة الحاجة ويشبعها عن طريق الاكتناز والاستهلاك، تمارسه الدعايات التجارية التي يستفيد منها السياسيّون، وتمثّله نسوة فقيرات إلى الإحساس بقيمة ما في حياتهنّ. أزاح الفكرة سريعًا، يريد أن ينعم بكلّ لحظة حريّة وتلك الأفكار مثقلة وغير ضرورية بل مقيتة، وتشعره بثقل في رِجله وهو يشعر للمرّة الأولى أنّه حرّ.
كانَ جمالُها أرقّ من أن يُصدِّقَ أنّها تأتي في كابوس
في زمن الحرب، ترك صالح بيته عاريًا كما غادره صباح اليوم، الفرق أنّه وقتها كان طفلًا. يذكر أنّه كان يستر عورته بكلسون لأخيه الأكبر، فضفاض ويُظهر كلّ ما تحته. اشمئزاز الآخرين جعله يمشي بين الشجر المتوفّر في طرقات مدينته كي يسترَ عورته. كان طفلًا وكان عريه يومها يثير حنوّ الأمّهات وشعور الآباء بالعجز المخزي. لم تعدِ الملاجئ آمنة، هرولت يومها أمّه نحو الزاوية التي كان والده جالسًا فيها، لم يفهم تلك الحركة المتسارعة من الجميع، وجد نفسه في الشّارع، لفَح هواء تمّوز السّاخن وجنتيه وعينيه وإليتيه، كان لذيذًا وعزيزًا بعد شهرين قضاهما في الملجأ. استعجلته أمّه، ركبوا السّيارة، الهواء يلفح عينيه، جلس في حجر أبيه، سيارات معدودة على الطريق لكنّها تتزاحم على الرّحيل. "أبي هل انتهت الحرب؟ أمي أليس هذا طريق جزين؟ هل ستأخذنا في نزهة؟"، لم يُجِبْ أحدٌ ابنَ عمّته المسكين.
أمّا هو فاستشعر الخوف. راقب أوراق المناشير، تعلو وتهبط، ترطم وجوه العابرين وأجسادهم، أخرج يده يريد التقاط أحدها، فزجرته أمّه إلى الخلف ثمّ صرخت: "أين عليّ؟ نسيت علي" توقّفت السّيارة الشيفروليه السوداء، ترجّل زوج عمّته وهو يعدل طاقيته، أوقفه والده الذي فقَد ساقه، فإن لم يذهب هو ليحضر ابنه فليذهب أخوه.
المدينة غارقة في ظهيرة ذلك النهار، غطّت المناشير الأرض، كان يحاول قراءة ما فيها لكنّه كان يريد العودة بأخيه بأقصى سرعة كما وصّوه. لم يجد أحدًا في الملجأ، فكّر أنّه قد يكون هرب مع عائلة ثانية، أراد العودة فالجميع ينتظره، ووقْفُ إطلاق النّار لا يستمرّ أكثر من ساعة نصفها قد انقضى. خلا الشّارع، الشمس وحدها كانت تتسيّد المشهد، الملجأ لا يبعد عن بيتهم سوى أمتار قليلة. الهواء يشتدّ رغم الحرّ والشمس، شعر أنّه وحيد ويائس، مشى حتّى وصل الدّار، صوانها منزوع، بابها الحديدي لم يعد يحرسها، لا بدّ أخذه اللصوص، سمع الكثير عن حكاياتهم في الملجأ، لصوص الحرب، غربان الليل كما يدعوهم زوج عمّته الذي ندم على عودته من الكويت، والذي بات تفكهة مجالس لعب الورق في الملجأ "إجيت وجبت الحرب، رجاع وخدها معك" كانوا يضحكون رغم الحرب.
دخل ببطء لم يعتده في نفسه، هو المتهوّر الشرس الذي يعرف الجميعُ سرعتَه في الركض وتفوّقه في مباريات كرة القدم، البيت بارد، الردم والتراب يغطي كلّ شيء، الموجود من الأثاث تكسّر ولم يعد صالحًا للاستعمال، فتحة كبيرة في سقف الصّالة، مكانها خبّأت أمّه ذهبَها، لكنّ اللصوص يشتمّون رائحة الذهَب كما تشتمّ الكلاب البوليسيّة الأثر، لن يخبرها أنّ ذهبها قد سُرِق، ولن يخبرها أنّ خطّتها في دفن الغسّالة والثلّاجة والمكيف لم تنجح كذلك، فالقبور التي وضعوها فيها منبوشة وقد ترك اللصوص لافتة كتبوا عليها بالدّم "عظّم الله أجركم".
عاد الهواء يلفح وجهه، هذه المرّة أكثر طراوة وبرودة، جلس أمام العتبة على الدَّرَج الذي يؤدّي إلى الحديقة، لم يخف أن يتركوه، ورقة من أوراق المناشير التي غطّت شوارع المدينة طارت، رآها تدخل من إحدى فتحات القنابل التي حوّلت جدران البيت إلى جسد أُصيب بالجدري ولم يتعافَ من آثاره. استقرّت أمامه، مدّ يده وما كاد يفعل حتّى استحالت بنتًا. لم يصدّق ما رأت عيناه، المكان لا يتّسع للأحلام، ربّما هو يحيا كابوسًا، لكنّ جمالها كان أرقّ من أن يصدّق أنّها قد تأتي في كابوس. أشارت إليه بصمت، لم يفهم إشارتها، فظلّت يدها ممدودة تشير إلى مكان. نظر نحو المكان فإذا بها هناك.
وقْفُ إطلاق النّار يستمرّ أقلّ من ساعة؛ نصفُها قد انقضى
بيت ريفيّ متواضع، حزم القشّ مركونة وبقرات ثلاث تتكاسل وهي ترعى، سيّدة عجوز تجلس تراقب، نسوة يمشين مع الغياب نحو أحد الأفران، يقفن بباب العجوز يسألنها إن كانت تحتاج إلى الخبز، تشكرهنّ فتلحّ إحداهنّ عليها أن تطلب، فالخبز شحّ والتجوُّل ممنوع والطائرات لا ترحم أحدًا. تقول العجوز إنّها لا تحتاج فهي وحفيدتها تتدبران أمرهما. تسير النسوة بوَجَلٍ في أوّل العتمة، وحين يختفين تدخل العجوز، تنادي حفيدتَها الشقراء، تجلسان ثمّ فجأة يطرق البابَ غرباء، وجوههم مغطّاة بالسّواد، يفتّشون بعيونهم المكان، تقع عين أحدهم على البنت الحلوة، يطلب ماء، تنظر إلى يدي جدّتها فتراهما ترتجفان خوفًا، تقصد المطبخ، تأتيه بكوب ماء وحين يرفعه إلى فمه، ترفع سلاحها وتهدّده، "إنِ اقتربتَ منّي سأقتل نفسي وجدتي" تأمره أن يرحل، يتراجع، تغلق الباب، تحضن جدّتها، لكنّه يعود.
تلمح النسوة باب العجوز مفتوحًا، تنادي إحداهنّ عليها، وحين لا تردّ، تقترب رغم خوفها من الطائرة، تستعجلها الأخريات، تصرخ فَزِعة.
كفّنتِ النسوة العجوز بشرشف ممّا تبقّى في البيت بعد نهبه، لم تخرج جنازة، ولم يبق أحد ليبكي عليها، حفيدتها الشقراء الحلوة بقيت في زاوية غرفتها أيّامًا. نشفت دماؤها وتحجّرت فوق جلدها، فقأوا إحدى عينيها الزرقاوين، وقصّوا شعرَها، كانت البقرات قد سُرقت هي كذلك ولم يبق شيء، حين انتفخت بطنُها انتحرت. التفت صالح إلى حيث الفتاة، كانت قد اختفت.
لم يهرول إلى السّيارة وهم لم ينتظروه. بقي في منزله، ساعد الجنود في بعض المهام، لم يعرف مصير أهله لأنّه لم يسأل عنهم. صار يُعرف "بينغو" لأنّه دومًا أصاب التخمين وتوقّع أمكنة الذهَب والمطلوبين للإعدام.
رمّم البيت لكنّه ترك تلك الفتحة التي دخلت منها الورقة، ظلّ يرقب أن تعود كلّ ليلة، وحين انتهت كافأه مسؤول المنطقة فوظّفه في ذلك البنك، أمّا لماذا خرج من بيته عاريًا فتلك قصّة ثانية. في اليوم السابق، جاءه صاحب الموتور مطالبًا بدفع ما استحقّ عليه، حاول أن يستعطفه، لكنّ الرّجل وهو أحد أغنياء الحرب أصرّ على أخذ ماله.
- "لقد أمهلتك خمسة شهور. في كلّ شهر تقول لي الحالة صعبة، الحالة صعبة على الجميع يا سيّد صالح، كيف بدي كمّل؟"
- "إلى آخر الشّهر. سأتدبر المال، أنا من سيأتي إليك شاكرًا معتذرًا. أنت تعلم أنّ مرض زوجتي كلّفني ما فوقي وما تحتي"
- "الله يشفيها، لكن هذا ليس شأني. أخرِجْ ما تحت البلاطة، لمين تاركه؟ ولادك برا، والكل بيعرف إنو بيت السبع ما بيخلا من العظام يا بينغو، ولا أنا غلطان؟"
- "تلك أيّام عفا الله عنها، انتهت وولّت ولم تترك لأحد شيئًا. ربما تدبّرت المبلغ، قد أجد من يسلّفني".
- "بِع ثيابك، استلف بلّط البحر... سأعود غدًا وأريد مالي".
استلقى صالح على سريره قبالة الفتحة، هاتَف بعضًا من أصحابه مستقرضًا المال، وحين أيس من إمكانية ذلك رمى محموله جانبًا "قلت لك يومها حين سألتني لِمَ أقف عارية إنّك ترى نفسك... أنا مرآتك يا صالح" شهق صالح، أفاق مذعورًا مخنوقًا يتخبّط، راح ينادي ويسأل أين أنت، خرج من بيته، مشى في شوارع المدينة، وهو يسأل "أين أنت؟" مشى ومشى، كان كلّما رآها في زاوية لحق بها، مشى حتّى انتهت المدينة واختفى صوته ثمّ يده ثمّ رجله ثمّ صار خفيفًا كأنّما يطير.
* كاتبة فلسطينية مقيمة في لبنان