ليس مجاملةً ولا مداهنةً أن نقول إنّ عفاف زريق (1948)، التي تعرض في "غاليري صالح بركات" ببيروت، هي ابنة قسطنطين زريق المعروف كمفكّر وأكاديمي ومنظّر للعروبة القومية. لا أملك إلّا أنّ أذكّر بهذه القرابة، التي فاجأتني، بدون أن أبني عليها شيئاً، أيّ شيء. عفاف هي عفاف وحدها ومعرضها، وكذلك نصوصها الإنكليزية مقابل اللوحات، والتي لم أقرأها لجهلي بالإنكليزية. أقول إنّ ذلك لا يمتّ لقسطنطين زريق، إلّا بقدر ما يمتّ إلى آخرين لا يحملون في الغالب، كما تحمل عفاف نفسها، أسماء عربية.
عددٌ من لوحات زريق، وربما جميعها، تحملنا على العودة الى الروسي كازيمير ماليفيتش، في لوحته البيضاء التي يتوالد فيها الأبيض من الأبيض، ويطغى الأبيض، بل ينفرد فيها. هناك في معرض زريق أكثر من لوحة تمتُّ، أو تذكّر على الأقل، إلى لوحة ماليفيتش هذه، وتكون مثلها فنّاً مضاداً أو لوحة مضادة. في المعرض لوحات يتولّد فيها الأبيض من الرمادي الخفيف، بدون أن يعاكس ذلك بياضه. بل نشعر أنّ الأبيض معه يتموّج في السرّ، يتموّج في صمت اللوحة، بدون أن يكون ذلك سوى تململه وحركته، وبدون أن يكون سوى عمق للبياض، حامل له.
هذه اللوحة البيضاء لن تبقى كذلك بيضاء على الدوام. لكنّنا نشعر تجاه اللوحات الأُخرى التي صُنعت من خطوط باهتة ومشحات باهتة أيضاً، سوداء أو خضراء وزرقاء وبنّية. نشعر أنّ ما لاحظناه في لوحة البياض، يكاد أن يكون، على نحو ما، نموذج المعرض وأسلوبه. ثمّة شيء آخر، شيء ما، يتولّد من المشحات الملوّنة، من الألوان المرشوشة على اللوحة أو الممسوحة عليها، شيء ما لا يبقى معه اللون نفسه. إنّه، في كل اللوحات، نهايات لون أو ضباب لون. ليس الأسود، أو الأخضر، أو الأزرق، أو البنّي، أو الزهري، هو ذلك تماماً، إنّه كذلك وليس كذلك، هذه ألوان مارّة، أو عابرة، أو مائجة في اللوحة.
هي كذلك في حال من التنفّس والتململ، كأنّها تُخفي بذلك، أو تغطّي، أو تؤكّد، شيئاً آخر. اللوحة هكذا ببقعها ومسحاتها وخطوطها، ليست، كما نراها، سوى لحظة ولادتها. إنّها هكذا عمل لا يزال يتحقّق، لا يزال يتكوّن، ونحن نصادفه في أحد أوقاته، بل في مرحلة من تكوينه الذي يسبق اللوحة، أو يتعدّاها. أي أنّ ما نراه يضمر اللوحة، أو يعد بها. ما نراه محطّة في غمار تكوين اللوحة، لكنّه هكذا يؤشّر لها، يخفيها بقدر ما يعلنها، يغطّيها بقدر ما يشهرها.
موضوعُ لوحتها، إذا كان لها موضوع، هو الفنُّ نفسه
مع ذلك، فإنّ اللوحة لا تزال، في خفائها، أشبه بكونها تتصارع مع نفسها، أشبه بأن تنقلب على نفسها، تعادي ذاتها وتتنصّل من ذاتها. إنّها، على هذا النحو، يائسة من نفسها. إنها أيضاً يائسة من الفنّ، بل تبشّر بفنّ يائس، بفنّ معكوس. إنّها فنّ مضاد، بل هي إنكار للفنّ تقريباً، أو تعريف آخر له. إنّها هكذا لون وبقع وخطوط، بدون أن تكون سوى تجديف على الفن واللون والخطوط.
إذا شئنا أن نجد موضوعاً للوحة عفاف زريق، والكلام عن الموضوع هنا ليس أكثر من تجديف ووصم للوحة، إذا شئنا أن نفترض موضوعاً، وهذا لا يكون إلّا افتراضاً، لقُلنا إنه فضاء. ما تفعله عفاف زريق هو الوعد، أو الايعاز، بسابق على الفنّ، سابق على اللوحة. ما ترسمه هو تقريباً الفنّ نفسه، لوحتها تقول إنّها اللون بالمطلق، والخط بالمطلق. أي أنّ موضوعها، إذا كان لها موضوع، هو الفنّ نفسُه.
لذلك أمام هذه الأحجية، لا نستطيع أن نرى لوحة عفاف زريق، إلّا بما ينقص اللوحة أو بما تستشرفه وتفترضه. اللوحة هكذا هي ما وراءها وما أمامها. هي تقريباً فكرة اللوحة وربما نظريتها. إنّها قد تُرى في علاقتها بالنص الإنكليزي الذي يقابلها. لكن صالح بركات يقول إنّه هو الذي علّق النصوص قبالة اللوحات. هذا يعني أنّ هذه الموازنة ليست شغل عفاف زريق، إنّها تدخُّل بركات. هذا يعني فوراً أن بركات شريك في المعرض، ولا نستطيع إلّا أن نرى تدخّله عضوياً وتأسيسياً فيه. ذلك يدعونا الى قراءة أُخرى توازي بين اللوحة المرسومة، واللوحة المكتوبة. هذا ينقلنا إلى حقل آخر... إلى قراءة أُخرى.
افتُتح معرض "بيروت أوكتيت" في الحادي عشر من كانون الثاني/ يناير الجاري، ويستمرّ حتى السادس والعشرين من شباط/ فبراير المُقبل.
* شاعر وروائي من لبنان