أوَّلُ دَرسٍ في المقاومةِ تعلَّمته من شُبانٍ فلسطينيين كنتُ أشاهدهم صَبيًّا على التلفاز، سلاحهم الحِجارة، يقاتلونَ عَدوًّا مدججاً بالأسلحة، لا تُعطِبُ دباباته حجارةٌ ولا يوقفها "مولوتوف". لكنَّي كنتُ أؤمن بالحجارة، إيمانَ من لا تزعزعُه عِدَّةٌ ولا عددٌ، أنَّ لها روحًا تُقذفُ في قلوب الغزاة وتقبضها. درسٌ قديمٌ أَلقى في داخلي، من حيثُ لا أدري، دافع المقاومة وعدم الرّضوخ، وعلَّمني بالمشاهد التلفزيونيّة فقط، لا مدرسة ولا صف ولا مقاعد، أنَّ الصِلةَ بالغزاةِ هي النار، النار كيفما تجيء، من بندقيَّةٍ أو قذيفةٍ أو حارقاتٍ يبتكرها الشباب أو حتّى بالحجارة التي فيها نارٌ خامدةٌ، لكنَّها ما دامت تُرمى على الغازي فإنِّ بها الجحيم.
عشتُ قِصَّةَ مقاومةٍ حقيقيَّةٍ في "بلد" يوم كان الدواعش يربضونَ في سواقي البساتين المجاورة، يُحاصروننا من كلِّ الجهات، ويُمطروننا ليلًا ونهارًا بالقذائفِ التي هدَّت البيوت ونالت بخبثِ مُطلِقيها أرواح أطفالٍ لم يفهموا بعد معنى القذيفة، وكبارًا لم يستطيعوا صدَّها حين تأتي. أقولُ عِشتُ لأنَّ هذا ما أستيعدهُ الآن مع أشلاء أطفال غزة، مع بيوتهم المُهدّمة وآبائهم المُستشهدين.
أن تعيش قِصَّةَ مقاومةٍ مع عدوِّ إرهابيِّ يحاصركَ وتعرف أنَّ نصرك قائمٌ بالمقاومة وانتظار الداعمين، هَيِّنٌ رغم ما للوقتِ من ضَررٍ وما للموت من صَولة، لكن أن تعيشَ قِصَّةَ مقاومةٍ لا تنتظرُ فيها أيَّ داعمٍ لكَ ولا معين على قتالكَ من أجلِ بيتكَ وأرضكَ وشجرتك، فهذه قِصَّةٌ لا يُستحب لها خاتمة، ولا أريدُ الآن، مع ما يجري في فلسطين، أن أتصوَّرَ نهايةً لما يجري، فلا جديد على خذلاننا العربيّ، ولا هو بمستغربٍ صمت "خَير أُمَّةٍ" على الإنسان العربي الذي يُباد، والبلاد التي تُمحى على مرأى ومسمع.
يا غزَّة، إنَّني بعيدٌ جدًا، ولكنِّني أقاتلُ بهذا الكلام
"إنَّنا لا نولد إلّا مَرَّة واحدة"، تقول عبارةً أبيقوريَّةً مأثورة، وعلى أساسِ هذه الولادة الواحدة تكون الحياة الواحدة، والثبات الرصين الذي تخلِّفه الأرض، والمقاومة الباسلة التي يبذلها الذي يحيا حياةً واحدةً من أجل أرضه وحريَّته.
على الدكَّة الحجريّة حين مَدَّدوا ويليام والاس – الثائر الاسكتلندي – طلب منه الجلّاد أن يطلب العفو من المَلكِ كي يُخفِّف العقوبة عنه. حدَّق في الجموع التي تحتشد لتشهد مقتله، ثم صرخ بأعلى صوته: "الحريّة". بعدها وبثوانٍ تدحرج رأسه على الأرض. هكذا يتّضح المعنى من الحياة، وبهذا الإصرار على عدم الهوان والذلِّ يصبح الموت بلا قيمة حين يُقبل على الإنسان الثائر فيفتح له يديه، لأنَّه يعرف أن الموت لا يمحو ثائرًا، ولا يُبيد ثورةً، لكنَّ القيمة الأسمى الآن هي أرواح العُزَّلِ من الناس الذين لا ذنب لهم سوى أنَّهم أصحابُ أرضٍ وهويّة، وحيث هنا، يظهر الجلّاد الصهيو-غربي، بسلاحهِ وإعلامهِ، يَقطع رؤوس الذين يهتفون للحريّة، مغمض العينين، أخرس أصم لا يجيدُ سوى الفتك بالإنسان، صغيرًا وكبيرًا وفي بيتهِ وأرضه، ليكونَ بعد ذلك - الجلّاد الصهيو-غربي - صاحب المظلمة والحق!
كتبتُ حكايتي في "بلد"، مقاومتنا ونَصرنا، والآن أقول: سأكتبُ فلسطين، الحكاية التّالية التي تعلَّمتُ منها أوَّل درسٍ في المقاومة. وسأضع لها الخاتمة التي أريد، حيثُ نعود إلى أرضنا، يدخلها الداخلون من كلِّ الجهات، وحينها، كلِّ الجهات لنا. وعنّي، سأدخل من جهة العراق، وطريقي بلا محطةٍ إلى القدس.
يا غزَّة، إنَّني بعيدٌ جدًا، ولكنِّني أقاتلُ بهذا الكلام.
* شاعر من العراق