خلال المحطة الأولى من رحلتنا إلى جنوب أوروبا الأيبيري، شعرنا كما لو أننا في بلادنا ـ إلّا قليلاً. وفي وسط القارّة، بعدما قطعنا حدود فرنسا، ودخلنا حدود بلجيكا بشهور، شعرنا بالفعل: ماذا تعني كلمة "الدياسبورا"؟
مجتمع متقدّم رأسمالياً، وناسه مصبوبون في القالب العام للعمل والوظيفة، حدّ جفاف المشاعر، واعتناق الحياد البارد، والتقوقع على الذات، فلا يد تمتدّ لغريب، ولو كان من بسمة في الفضاء العام، فهي مصطنعة، ويقال إن كلّ هذا بسبب البرد والصقيع؟ الناس منكمشون على أنفسهم، حالهم كحال القواقع، بسبب البرد والصقيع؟
ثم دخلنا تجربة اللجوء ـ اللهم نجّنا من تقرير يد المحقّق الشرير ـ واستغربنا، في البدء، وجود عائلات مشبوحة على صليب الانتظار، أربع وخمس وستّ سنوات، دون قرار، مع أن الشبكة تقول إن البلد متسامح مع اللاجئين، ومن أسرع بلدان الاتّحاد في منح شروط الإقامة.
وها نحن ذا، من مخيّم لاجئين في بروخم، إلى بيت سوسيال معزول عن البشر والحجر، في بلدة تيسندرلو، إلى مصحّة نفسية تابعة للصليب الأحمر، في مركز مدينة سانت نيكلاس، وقد مرّت علينا ثلاث سنوات كاملات، ننتظر غودو، وغودو لا يجيء.
مآسٍ وتراجيديات نحاول كتابتها أدبيّاً، فتحرن ولا تنكتب
البعض من لاجئينا الفلسطينيين الشباب (وهم كُثر جدّاً هنا، ويفوق عددهم المئة ألف لاجئ)، يستقدمون الحلّ بمحاولة قتل أنفسهم، لأنه ما من درب موصلة ثانية سوى هذي الدرب. مآسٍ وتراجيديات، نشهدها كلّ يوم بأم العين، ونحاول كتابتها أدبيّاً، فتحرن ولا تنكتب. ولو كُتبت، تخرج مثل عبارات تأتي في مؤتمر صحافي. عموماً، لسنا أحداً لنقرّر ما هي الحال في مأساة ظاهرة الهجرة.
مع أن الذكريات التي لا تشكّل جزءاً من التاريخ الرسمي للقارة، تأتي فقط من الأحداث المأساوية على الحدود. هل توجد عدّة طرق للتعبير عن هذه الذكرى: إحداها هو التماهي مع الضحية بطريقة متطرّفة، وهذا يسبّب ألماً دائماً. والطريقة الأخرى هي قبول الحاضر الموجود، وقبول مسؤوليتنا كمجموعة نازحين، ومسؤولية بناء مجتمع آخر في الوقت الآتي. ثم التعامل مع الحاضر، وكأن هذا الأخير ليس بمؤلم. حيث لا ينبغي للذاكرة أن تجعلنا متحجّرين كمجتمع، بل يجب أن تشجّعنا على فرط الحركة.
وهل ما قيل أعلاه، ليس سوى "طق حنك"؟ مَن قال إذاً إن بلجيكا بلد متساهل مع اللاجئين، فقد خرج عن الصواب التوثيقي، وليس قوله هذا سوى نوع من دعاية لبلدٍ حكومتُه وشعبه لا يحبّان اللاجئين. وعليه، فإن لسان حال رفاقنا أنْ: اكتشفنا هشاشتنا كلّها في لجّة اللجوء.
والقارورة الشفوية؟ تلك الرحلة المرعبة الشاقّة التي تتبع مجرى النهر العظيم من منبعه إلى المصبّ، واللاجئ، بعد عام من الإقامة في مخيم، أبداً لا يتحدّث عن دوافع السفر والإحساس الذي لا يرحم بمرور الوقت، إلّا ويشعر برغبة عزيزة في البكاء. عذاب اللاجئ سيغير إلى الأبد وجه الحياة.
* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا