هل تنفع أكثر الأعمال اليومية ابتذالاً أن تكون مادّة للشِّعر؟ كان هذا ما أردناه: كتابة شعر عن توافه التفاصيل؛ أن نجمع أعمالنا ونضفي عليها طابع المؤقّت الشعري. لقد حافظنا على محبّة برشلونة، لأنها قُطب عالمنا الجديد، بعد التوجّه إلى البَرّ الأوروبي. عالمنا هناك أجمل من عالمنا هنا؟ وحتى لو حدث كلّ شيءٍ بشكل مثاليّ هنا، سنظلّ نلتفت إلى الوراء ونتذكّر الطِّيب والطيبة من كلّ شأن برشلوني.
إنما السؤال هو: كيف سيبدو هذا هنا، في مجتمع فرديّ مثل مجتمع فلاندر؟ هناك العديد من الفِخاخ في مسعى كهذا، وفي كلّ العالم، وعليك كسرها. الفرح؟ لكنّنا عرفنا أشياء طويلة الأمد غيره، لم تُذكَر في وسائل الإعلام التي تُملي علينا ما يريدون، أو ما يتلاعبون به. لقد كان كلّ شيء أكثر تعقيدًا ممّا يريدون منا أن نصدّق.
يشكو البعض، بعجز معيّن، من حياة وعِرة. الحياة اليومية لسَواد الناس مشروطة تمامًا بتوفير اللقمة والهدمة والسقف، وهي هموم لا هوادة فيها من جميع النواحي. حتى لغة عيشٍ كهذا، مشروطٍ بسياقه التاريخي، هي لغةٌ واقعية جدًّا، ولا يهمّها تساميات الشعر.
هناك العديد من الفخاخ في العالم وعليك كسرها.
لقد كانت حياتنا، مذ وُلدنا، مأساةً، لكنّها ليست مأساة ماضية توقّفت في الوقت المناسب، ولن تتكرّر مرّةً أُخرى. إنها مأساة ألمٍ لا نهاية لها، ولا يبدو أنها ستنتهي أبدًا، كمثالٍ لِما تُوجده الرأسمالية الكولونيالية حقًّا في النمط الفلسطيني. لكن، في خضمّ هذه المأساة، تبرز الكرامة، مثل تلك التي لطالما ميّزت تاريخ شعبنا منذ قرن مضى. إن كرامة المقاومة إرثٌ لا يفنى، ويبقى لأولئك منّا، الذين ما زالوا على قيد الحياة ويكافحون، في خضمّ كلّ هذا القدر من الاستهزاء والإهانة. فبعد كلّ شيء، وقبله، وكما قيل، الحِياد مستحيل: نحن مع كلّ مقاومة، أيًّا تكن، للاحتلال.
كرامة المقاومة إرث يبقى للذين ما زالوا منّا أحياء
كيف يجرؤ شخصٌ لم يقرأ نضالات الشعوب، على أن يصبح مُنظَّرًا ثوريًّا؟ إذا تمّ تضخيم مطالب اليمين، سترتفع الأسعار؟
أوسلو؟ عندما رأيتُ تلك الصورة شعرتُ بألم شديد في جميع أنحاء جسدي: ألمٌ يأكلنا من الداخل، كَرْب وقلق بلا حدود. شعرت بالوحدة، وغمرني شعور بالخسارة التي لا يمكن تعويضها. كانت أنفاسي تلهث، وأردتُ البكاء وضرب الجدران، لكنّني لم أستطع كليهما: لقد رفضتِ الدموعُ الخروج من عيني، ويدي فقدت قدرة خمش الحائط. لم أستطع ولم أرغب في التحدّث بعد ذلك ــ أردت المغادرة والهرب من ذلك المكان.
إنها تلك اللحظات التي يريد فيها المرء أن تبتلعه الأرض ويكون قادرًا على نسيان كلّ شيء. هذا الشعور بالألم، وعدم الرغبة في فعل أيّ شيء، رافقني لعدّة سنوات، ويتجلّى الآن ليليًّا في تكرار نفس الكوابيس التي تدور حول معنى خداع الناس وخيانتهم.
ألَا تنام؟ يُعتبر هذا الألم من أصعب الآلام في التعبير عنه، على الرغم من أنه أيضًا من أكثرها انتشارًا، نظرًا لإدراك أن جهدًا ما تمَّ إهدارُه، وأنه كلّف الكثير من التفاني وتطلّب الكثير من الوقت، وأنه من الممكن ألّا يتجسّد في قادم الأعمال، بمنظور نقدي ــ وهو ما نحتاجه كثيرًا.
أبو مازن يقول "حاضر" لما يُملي عليه الظالمون. وبسبب الألم الظاهر واليأس العام، الذي تفاقم مذ جاء هو للحُكم، لا أطيق سماع التوافه.
كيف يجرؤ مَن لم يقرأ نضالات الشعوب على التنظير للثورة؟
الشهيدة فلانة؟ هذه هي الصورة التي بقيت محفورة في ذاكرتي: صورة شابّة مملوءة بالحياة، سعيدة (لو كان للسعادة من وجود ملموس وواضح في الحياة)، وملتزمة بما تعتقده، بما يتوافق مع طريقة وجودها، جديرة بكلّ تقدير. الشِّعر عنها؟ باختصار، في تلك اللحظة تشعر أنك حصلت على بعض الهدايا الاستثنائية، وأن نَصّك مليءٌ ببشر استثنائيين من أولئك الذين أُتيحت لك الفرصة للتحدُّث معهم في أماكن متعدّدة من العالم. والذين كانوا مرتبطين ارتباطًا وثيقًا بعالم الفقراء وحُلم التغيير الراديكالي، المعادي لكلّ نخبة أوليغارشية رثة؟ لقد تمّ التأكيد على هذا الشعور على مرّ السنين، مع الشوق لرؤيتهم والاستماع إليهم في نفْس الأماكن التي تحدّثتَ فيها معهم بسعادة وحماس وشغف، في العديد من المناسبات.
الواحد يتعزّى: الأدب الجيّد عالميٌّ في الزمان والمكان. أفكّر في صَوم الفقراء، في غرف الشاي الحميمة، في النساء العاملات كمساعِدات في المصحّات، وفي أولئك الذين تمكّنوا من قراءة واستنقاذ آلاف الصفحات من النسيان، من وقت لآخر، ولكن بنفس المفتاح. في الحياة بين قوسَي الموت والولادة، وأقول إنها العجيبة الكبرى. في أن هذه اليوميات تعتمد على الإخبار، وأن الأدب طبعًا ليس مجرّد أخبار، على الرغم من أن الانهيار المستمرّ لهؤلاء هو ما يؤدّي إلى تحقيق أرباح مجموعات النشر الكبيرة.
نصُّك مرتبطٌ بالفقراء المعادين لكلّ نُخبة أوليغارشية رثّة
الكثير من العناوين، والكثير من المبيعات المحمومة، والمزيد من الكتب. في أنّ الشيء المهمّ في الكتاب، الكتاب الجيّد، هو أنه يسمح للقارئ أن يجد في مشهد يقرأه نموذجًا أخلاقيًا، نموذجًا للسلوك، الشكل الخالص للتجربة ــ على الأقل هذا ما يُرتجى منه.
أفكّر في ماركس بوصفه واحدًا مركزيًّا من المراجع التي لا تزال صالحة اليوم. في أنه لا يمكن أن تفشل الروايات في الانغماس في مجتمع عصرها، وإلقاء الضوء على الأضواء والظلال التي تحدّدها. لكن إذا كانت - واللهِ - أصيلةً، فإنها تقيم حوارًا مع القرّاء في أي وقت.
في ستّةٍ من هؤلاء المؤلّفين الموتى الذين قابلتهم في الآونة الأخيرة لأسباب مختلفة. في هذه اليوميات كإنتاج ضخم، غطّى مواضيع لا حصر لها، وأجد أن أفضل استعارة لها، هو ذلك الرجل الذي يحمل كرةَ كوكب الأرض، على كتفيه المتهدّلتين من الإنهاك.
أفكّر دون أن أكتب ــ كي يكون نصًّا فريدًا وأصليًا، مع إيحاءات طليعية ربّما ــ في العمل الكامل لإله، لكنّ هناك أكثر من ذلك، عشرات المُبدِعين أو الرواة أو الكتّاب، الذين تمّ اغتيالهم أو الذين أنهَوا أيامهم في المنفى، حيث تم القضاء عليهم من شرش الذاكرة.
* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا