يمكن القول لدى مشاهدة لوحات اللبناني مازن الرفاعي، ولو في كاتالوغ، إنّنا أمام فنّانٍ مَتين. متين أكثر ممّا نتوقّع وأكثر ممّا تتيح سمعته الفنية، فهو لا ينتمي إلى جيل يُتعارف عليه بأنه جيل الروّاد، جيل بول غيراغوسيان وأمين الباشا وحسين ماضي وسلوى روضة شقير وإيفيت أشقر، إلخ.
جيل مازن الرفاعي يضمّ إليه فنّانين بعضُهم له لوحته وله بصمتُه؛ يكفي أن نسمّي محمد الرواس للتدليل على ذلك. معرض "أعمال جديدة" لمازن الرفاعي في غاليري "أجيال" ببيروت (اختُتم في الرابع من كانون الثاني/ ديسمبر الجاري) يُعيدنا بقوّة إلى هذا الجيل الذي لم يدع الظرف اللبناني فرصة لتصديره أو تقييمه، لذا يبقى فنّانوه أفراداً متفرقين يقاسون على أنفسهم، ويُحاكَم كلّ منهم بأسلوبه ولوحته الخاصّة.
لمازن الرفاعي لوحته، كما أن له أيضاً انتقالاته وتبدّلاته، لكنّه في ذلك كلّه، وهو يختلف من معرض إلى معرض في التِّقنية والخيار الأسلوبيّ والموضوع، يبقى هو نفسه. يبقى صاحب لوحة وصاحب بصمة وملوَّنة ومعالَجة. يبقى أنه، في مراحل مختلفة وتقنيات متغايرة، قادرٌ على أن يكون هو نفسه من وراء التقنية ووراء الموضوع. يبقى له فنّه، قدرته الخاصّة على التركيب والتأليف والمزج والموازنة.
في لوحات من مراحل سابقة يظهر لنا الافتتان بالفضاء، التأليف من فراغ ومن فضاء سماويّ. هذا التأليف يُعيدنا، من دون شبهة تقليد، إلى غير فنان، بل وإلى غير تيّار أو مدرسة. سنجد في لوحات هذه المرحلة ذلك التنغيم الفضائي الذي يُعيدنا، من بعيد، إلى لوحات مارك روثكو، لكنّنا هنا أمام إيعاز روثكو وفضائه. إنه فضاء موزون متناغم، لكنّ مازن الرفاعي، وهو يحتفل بالفضاء، لا يتوقّف في السماء الروثكية، لا يبني فقط متوازيات من الفراغ.
إنه يبسط الفضاء ويتدرّج فيه لكنْ تحت السماء الموزونة، هناك هذه اليابسة، التي تكمّل التوازن بل وتجعل من زيحها في أسفل اللوحة وفي طرفها التحتيّ ما يبدو متوازياً آخر للفضاءات التي تتناغم فوقه. نحن هكذا بين التجريد والتشخيص، ونحن أمام الفراغ الذي يقع على المادة وعلى ما يشبه الشيء. لقد استطاع الرفاعي هكذا أن يصنع لوحة وسطاً بين لوحات. لوحة من لوحات ومن أساليب وتقنيات تندمج وتتركب في عمل واحد.
معرض مازن الرفاعي الأخير ليس هكذا، لكنّه مع ذلك ليس في جهة معاكسة. إنها لوحة الرفاعي، بل طاقته التأليفية، بل إيقاعه ونسقه نفساهما، ومن وراء ذلك المهارة نفسها التي هي في الهندسة وفي الملوّنة وفي التركيب. في معرض "أجيال" نعثر مرّة ثانية على تلك الهندسة التي تقيم شكلاً متوازياً ومتحرّكاً وشبه متّجه الى داخل، بل ويصنع ما يكاد يكون انعطافاً وممرّاً وعمقاً من تراكب وتوازٍ وتداخل بُقَعٍ لونية وأشكال هندسية تُفضي أيضاً إلى ما يشبه فضاءً، إلى ما يشبه سماءً بين معمارات ذات بناء هندسي وذات إيحاء بمبانٍ وربما منعطفات وشبه أحياء.
لوحة
نحن، لأوّل وهلة، وأوّل نظرة، نتصفّح ما يشبه أن يكون تجريداً هندسياً، ما يذكّرنا، من بعيد وبعيد جداً، ببولياكوف ببقعه وتوازناته اللونية. نحن هكذا في النظرة الأولى، في التصفّح السريع فقط، إذ إن الشكل الذي تحت أعيننا، سرعان ما يتحرّك ويتوازن وينغلق أو ينفتح ويذهب عمقاً أو جانبياً. وإذا نحن أمام سطوح وواجهات وشرفات وغرف من الداخل وممرّات، ما يكاد يكون أزقّة، وإذا نحن في تصفّحنا للوحات، وانتقالنا من واحدة إلى أخرى، نكتشف أنها رواية واحدة متّصلة. إنها لوحات تتناسل من أمٍّ مختفية.
نكتشف أن كلّ لوحة جديدة تُضيف فصلاً جديداً، وأن اللوحات، واحدةً تلو أخرى، تتوالد من ذات المصدر وتتكامل تقريباً. نكتشف أننا هكذا نجول في شوارع ونمرّ أمام مبانٍ ونغور في أزقّة ونصل إلى أحياء. أي أن التجريد الذي ذكّرنا، بادئ الأمر، ببولياكوف، ليس تجريداً إلّا للحظة واحدة، بل هو تجريد يقع على غيره، غيره ولا أقول عكسه. التجريد وهو يقع على تشخيص، يبدو أن هذا ما قابلياته، وأنه وجد على هذا الأساس، وأننا هكذا أمام أسلوب مازن الرفاعي.
هذا التجريد الذي يقع على تشخيص دون أن يتعاكسا أو يتنافرا، بل يبدو وكأنهما يتناسلان، وأن واحدهما يخرج من الآخر ويهندسه ويؤلّفه. نحن هكذا أمام لوحة مازن الرفاعي، أمام أسلوبه، أمام اختياره التقني. المدينة تخرج من هندستها، الأحياء والممرات والمنازل تتحوّل هكذا إلى متوالية هندسية، كما إلى تجريد فضائي.