القراءة الثانية لكتاب يونغ شانغ وجون هوليداي "ماوتسي تونغ القصة المجهولة" الصادر عام 2007 عن "دار النهار" ليست مستغربة. إنها تماماً في موضعها. في القراءة الأولى كنا لا نزال نعاني الانشقاق عن ماوية شبابنا الأول، من هنا كانت صدمتنا بالكتاب عنيفة ومزلزلة، لكنها بقيت مع ذلك صدمة.
كان لا بد من أن نعتاد الكتاب، ونألف المفاجآت التي تزداد مع القراءة ألفة، وأن نتمرس بالعادية المفرطة، التي تنحدر عاماً بعد عام ومرحلة بعد مرحلة. إنها عادية الشر كما أطلقت عليها حنة آرندت، عادية التسييس والمراس السياسي، الذي لا يبقى فيه أي استثناء أو أي تميّز، إنما هو السياسة بطولها وعرضها، السياسة في أحافيرها وعواقبها وعادياتها. السياسة التي ليس فيها محلّ لاستثناء أو محل لاختلاف، إنما هي السياسة كمستوى يشترك فيه الساسة جميعاً، يتناظر فيه هؤلاء على اختلاف مصادرهم ومراجعهم وآفاقهم. يتناظرون ويتشابهون ويتعادلون، وإن اختلفت، لأوّل وهلة، أسماؤهم وادعاءاتهم وأطروحاتهم. السياسة التي تجمعهم، إنما توحّدهم أكثر مما تفرقهم، وتجعل لهم، على اختلافهم في العقيدة والظرف والزمن، مواطئ واحدة ومسالك جامعة وردوداً متقاربة.
هكذا لا يعود هتلر غير ستالين، ولا يعود لينين غير موسوليني. لكن الذي يبدو أعجب وأكثر استفزازاً، هو ما يقره الكتاب ويريد أن يثبته، من أن ماو ليس فقط نظير هتلر وستالين، فهو في حساب الكتاب أبعد طغياناً وأشد استبداداً بما لا يُقاس. إنه في نظر مؤلفَي الكتاب طاغية العصر، بل قد يكون طاغية كل العصور.
بقي طوال عقود حكمه مثالاً لأمور ما كان أبعده عنها
هكذا ننتبه إلى أننا لسنا الوحيدين المخدوعين بماو، لسنا وحدنا في هذا الباب، فلقد انخدع بماو سوانا كثيرون. لا نعجب إذا علمنا أن بينهم سياسيين كباراً في العالم، قد يكون أحدهم نيكسون وكيسنجر. بل يتراءى لنا أن الانخداع بماو يكاد يكون شأناً عالمياً، فالرجل الذي أمضى حياته في الصين، كان لأمور شتى قد يرتد بعضها إلى الظرف العالمي، وإلى توازنات تلك الحقبة وإلى الحرب الباردة، مغطى إلى حد ما، معمّى عن الأنظار، بحيث أمكن له في موقعه ذاك أن يتخفّى أو يكاد يتخفى، وأن يتحول، بحد ذاته، إلى نوع من خديعة. خديعة لم تجز فقط على يسار تلك الآونة، وإنما أيضاً على أرباب الدول ومتصدري المرحلة، فكان ماو، في آن معاً، ثوري العصر، وباني الاشتراكية، وقائد العالم الثالث. بقي طوال العقود، التي حكم فيها، نموذجاً ومثالاً لأمور ما كان أبعده عنها، وما أكثر شقاقه معها.
في الكتاب قصّة مجهولة بكل معنى الكلمة. لقد انضوى ماوتسي تونغ في الحركة الشيوعية الصينية، وكان من أوائل المؤسسين فيها. لكن الحركة كانت انتصرت، من قبل في البلد الجار الروسي، وأقامت دولة فيه نصبت من قائدها زعيماً، في شتى أنحاء العالم. كانت الشيوعية قد صارت دولة، ولم يكن أمام ماو وشيوعيي الصين سوى ذلك النموذج الذي قام في الدولة الجار.
كان ماو منذ اللحظة الأولى في مستوى ذلك وعلى مقاسه. منذ البداية لم يكن أمام ماو، بل وأمام شركائه في الحزب، سوى مطامحه الشخصية. هذه المطامح، كما نفهم من الكتاب، حكمت سلوك ماو منذ أولياته. كان ماو معنياً قبل كل شيء بهذه المطامح، وما تجره من سلوك، وما تنهيه من أفعال. كان ماو الشيوعي شيوعياً حقاً، بقدر ما يخدمه ذلك في مآربه الخاصة ومطامحه الشخصية. لم يكن الحزب ولم تكن الحركة يعنيانه إلا في هذا الإطار. خارج ذلك لم يكن يبالي بأن يجرّ حزبه، وجيشه الحزب الواقع تحت إمرته، إلى هزيمة محققة، إذا كانت هذه الهزيمة توافق مصلحته، أو تخدمه شخصياً.
لا نفهم كيف تخدم الهزيمة مصلحة قائد حزبي بحيث يسعى هو إليها، ويجتهد لتحقيقها، لكن الكتابة تبين كيف كان ذلك يجري. كان ماو يمتنع عن أن ينتقل بجيشه إلى أمكنة قد تجرّ عليه الخذلان، أو تضعه تحت إمرة قائد آخر يعتبره منافساً وخصماً. بالطبع كان ذلك يعني ان سياسة ماو تهدف، قبل أي شيء، إلى الإيقاع بمنافسيه ومن يعتبرهم خصومه، لكن هؤلاء كانوا، تقريباً كلّ الصف القيادي. الأمر الذي عرّض الصين مرةً بعد مرة للمجاعات والحرمان المتزايد، الأمر الذي جعل حكم ماو، قبل أي شيء، حكم الإفقار والمجاعة.
كان ماو لهذا متآمراً، على الدوام، ضد كل الصف القيادي الذي يخشاه، وكان لذلك مجرماً بحق كل هؤلاء. هل كان ماو شيوعياً حقيقياً أم مجرد طامح سياسي؟ ليست السياسة، في الكتاب، سوى الانخداع والتآمر والوحشية، وماو كان سياسياً بهذا المعنى، كان طاغية حين لم تكن السياسة سوى الطغيان.
* شاعر وروائي من لبنان