من غزة إلى لبنان إلى سورية... الامتحان نفسه

14 ديسمبر 2024
آلاف السوريين يحتفلون بإسقاط النظام، اللاذقية، 13 كانون الأول/ ديسمبر 2024 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يسلط النص الضوء على العلاقة المعقدة بين غزة ولبنان وسوريا، مشيرًا إلى الترابط بينها رغم الفروق، مع التركيز على الدور الإيراني وتأثير الأحداث السورية كجزء من تأثير عربي أوسع.
- يؤكد النص على مركزية القضية الفلسطينية في الأحداث، حيث تُعتبر حروب غزة ولبنان تجليات للصراع الفلسطيني، مع تحول العنصر الفلسطيني ضمن الإيديولوجية العربية بين القومية والدين.
- يناقش النص تأثير الربيع العربي ومحاولته تغيير المسار القومي العربي، مع إبراز دور الشيعة والسنة في هذا السياق، وفتح الباب أمام إسلام ديمقراطي حديث.

من غزة إلى لبنان إلى سورية، ولا ندري إلى أين بعد، إنما يظل يواتينا شعور بأن هذا التسلسل تمّ ببداهة وتلقائية غير منكَرة ولا مستغربة. كأنّ هذه الجهات خرجت، بعضها من بعض، رغم الفرق بينها، وهو فرق في كلّ شي. هناك الرابط الإيراني لكنه لا يكفي ليصل بين بلد محتلّ كغزّة، وآخر متعدّد كلبنان، ودولة محكومة من نصف قرن ويزيد من عائلة واحدة. ثمّة ما يجمع بين غزّة ولبنان، لكن الحدث السوري يبدو وكأنه المعنى البعيد لكل ذلك، يبدو وكأنه حلقة في مسلسل لا نعرف أين ينتهي، وما هي حلقته التالية. لنقل إن هذا المسلسل لا يبدو أنه سيبقى وقفاً على هذا المحور، أو أنه سينتهي هنا.
 
إذا قرأناه أبعد من تَتابُعه السياسي، وحتى الجغرافي، سيتراءى لنا أن قراءة عربية لما جرى مُمكنة، وأن الصدى العربي لما جرى قائم بارز، أن هذا المسلسل لن يبقى في محلّه، ولن يقف عنده. لا بد أن ما حدث هو، وإن تحت عناوين مختلفة، لا يستطيع أن يبقى في حدوده الجغرافية، إنه بدون شكّ عودٌ على مسار عربي، في جملته وفي ركيزته وفي أفقه. يكفي أن نتكلّم عن فلسطين، لنفهم أننا لا نزال هنا، حيال ما اعتبر باستمرار قضية العرب. 

ليست حرب غزّة وحرب لبنان سوى هذا التجلّي الفلسطيني، ولا نفكّر كثيراً حتى نجد فلسطين في قلب الحدث السوري. لكن العنصر الفلسطيني هو الآن في مرحلة أُخرى، أو قد يكون انقلاباً على مراحل أُولى. انقلاباً على المسألة نفسها، أو صدى سلبياً لها، لكن مع ذلك تبقى في العمق الإيديولوجي العربي، عنواناً وركيزة لما يُمكن أن نسميه بالإيديولوجية العربية المعاصرة.

عودٌ على مسار عربي، في جملته وفي ركيزته وفي أفقه

ما سُمِّي في حينه الربيع العربي الذي اجتاح العالم العربي، كان محاولة انقلاب على هذا المسار. لقد استُبعد فيه ما يرتدّ إلى الحلم القومي وعنوانه الفلسطيني، لتحلّ محلّه قُطرية ومشاريع من ذات الصنف. هذا الانقلاب لم يكن وجد قوى كافية، لتتراجع عن الإرث الإسلامي نحو المشروع الديمقراطي للدولة القُطرية. لم يغب الإرث القومي إلّا ليحلّ محلّه تطلُّع أسبق وأكثر رسوخاً هو التطلّع الديني. في سورية مثلاً لم تلبث الموجة الليبرالية أن انحسرت أمام مدّ إسلامي، كان الوريث، ليس فقط للدعوة الدينية، بل أيضاً للدعوة القومية التي تلقّت الهزائم، بدءاً بفشل الوحدة المصرية ـ السورية، وانتهاء بسقوط 1967، مروراً بفشل محاولات وحدوية أُخرى. لم يكن المدّ الإسلامي بحاجة إلى أكثر من ذلك، ليزدهر ويسود. لم يطلب منه الانتصار، معركتُه لم تكن الآن، لقد انتصر ولا يزال منذ عشرات القرون. كان يحتاج فقط، فوق الإيمان، إلى ركيزة إيديولوجية قدّمتها القضية الفلسطينية. 

وجد الشيعة، وهم ورثة الظلم التاريخي في هذه القضية، ما يتماهى مع مظلوميتهم السالفة، فأسّسوا عليها، وجعلوا منها ركيزتهم الإيديولوجية. كانت كل ما يحتاجون إليه لاسترجاع زخمهم الموروث، وبناء مسألة وجود واسم آخر وعمق استراتيجي. كانوا في هذا ينسجون على غرار السنّة، ويضيفون إلى ذلك رعفاً تاريخياً ونزوعاً استشهادياً، وإلحاحاً استراتيجياً. كان للشيعة هذا المرجع الذي يحتاج إلى مزيد من التضحية، مزيد من الخسارة، لكي يعودوا "جند الله" و"جند الإمام". هُم بالتأكيد جعلوا من ذلك واقعاً راهناً، وإن عاد إلى عشرات القرون، لكن إسلاماً كهذا لم يكن له ما أمامه. السنّة كان لهم تاريخ أسبق في العمل الإسلامي، كان الإسلام بالنسبة لهم صالحاً بتفاصيله وجزئيّته لكل يوم، لكن المعارك الطويلة التي خاضوها ودفعوا خلافها دماً وخسائر، كان لا بدّ أن تدعو، في يوم ما، إلى نوع من مراجعة، إلى قدر أكبر من التحديث. 

انتظر هذا كلّ ذلك الوقت ليصل إلى تجارب، منها ما نراه في دول الخليج، ليصل بعد ذلك إلى أحمد الشرع في سورية. لا نعرف مليّاً أفكار واتجاهات الرجل، لكنّنا فوجئنا به، منذ اليوم الأوّل، لا يغيّر اسمه فحسب، بل يلوّح بحلّ تنظيمه. ذلك لم يُتح لنا أن نستخلص منه بعد، لكنه يدعونا إلى أن نفكّر بإسلام ديمقراطي. إسلام على غرار المسيحية الديمقراطية في الغرب. هل يُمكن أن ننفذ إلى العصر عن طريق الإسلام، هل نحن أمام إسلام حديث حقّاً، هذا سيكون امتحان الأيام القادمة.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون