العالَم يستمرّ والنازحون، وهُم يحاولون الظهور بمظهر جميل، لا يفتأون يكرهون الأعياد في بلادهم، لأنّها تفتح الجراح. هل تفتح الكنيسة واجهة أُخرى لمَدّهم بالطعام الأسبوعي القليل، نوعاً وحجماً؟ هل النازح جنديٌّ مُتعبٌ أو بحّار محطّمٌ نجا من البحر الأيوني أو بحر إيجة، ليُبتلى بموتٍ بطيء كلّ يوم؟ ما يفعل وهو من ذوي الدم الحار في بلاد لا تغيب عنها الشمس، أمام هبّة الريح الجليدية تنتظره ما إن يتخطّى العتبة، هنا؟
أيّتها الأرض، يا أرضنا: في توحّش الرساميل، هل تبدأ عدالة السوبرماركت المستحيلة؟ هل جسدك الشاب مصنوعٌ من "ليدل" و"كارفور" و"الأكشن"... إلخ؟ هل يمكن الاستغناء عنكِ ببائعات هوى وسط البلد؟ هل أنتِ والشتاء صنوان ينامان على نافذتي؟
أيتها الأرض، يا أرضنا: هل أنتِ السيّدة التي لا يُمكن الاقتراب منها - أو الأميرة - وكنتُ تروبادور يطاردها. هل ما كنتُ سأفعله معكِ ليس هو إدراككِ، لن يكون الشعور بكِ، بل تجربة جمالية، فحسب؟
هل يشكّل اللاجئ الذي يلعب دوراً ذكوريّاً تقليديّاً في المخيَّم، في هذه الحالة من استعراض جسده، حين يلبس الشورت الضيّق، مثالاً آخر للراوي الشبِق؟ أودُّ أن أقول إنّه يفهم بالضبط ما تعنيه الكتابة بالأسلوب المذكّر، دعنا نقول، الذي يقلّده ويسخر منه، على حدّ تعبير عابري الظلال؟ لِمَ كلُّ لقاء مهما طال ينتهي بوداع؟ من هنا بدأ كلُّ شيء وانتهى؟
هل هذا، من بين أمور شتّى، ما يكسر قلبَ الشاعر؟ ومع ذلك، فإنَّ الشاعر يعرف دائماً أنّه لا أحد سيعامله جيّداً لمجرّد كونه شخصاً جيّداً: سيكون مثل أملِ شخصٍ ما في ألّا يهاجمه الضبع لأنّه كائنٌ نباتي؟ هل تراه يعتقد أنّه انتقل من كونه منبوذاً إلى ما كان عليه حقّاً، وعاد إلى ما كان عليه دائماً: شاعر مموسق على خشبة المسرح، يلعب لجمهوره بكلّ الحواس؟
هل اعتقد أنّه سيكون غارقاً في كلّ هؤلاء الأشخاص الذين ينظرون إليه، لكن ذلك كان عكس الهدوء المُطلق. الصفاءُ التام على الوجه. كان الأمر أشبه بالوصول إلى المكان الذي كان يحاول الوصول إليه طوال حياته: المنزل قبواً. وهذا رجلٌ من الطرفِ الآخر من الأرض، جاء نازحاً هنا، وأبداً لم يكن الأمر أشبه بالعودة إلى المنزل؟
لِمَ في آخر قراءة لي في الوطن، نظرت إلى كل هؤلاء الناس من حولي وقلت لنفسي: إنها تجربة تحدث مرّة واحدة في العمر. إنّه شيء لن يحدث مرة أخرى، على الأرجح؟ هل ما كان هناك حبّاً ضافياً، بفضل العدالة الشعرية التي لا تُميِّز؟ حسناً، أليس هذا قدرنا العظيم؟ أحلامك عن نفسك، ذاتك العليا، هي أنّه في يوم من الأيام سيتمُّ الاعتراف بك وستصبحُ مواهبك وكلُّ شيء آخر مرئية للعالم فجأة.
هل هذا، من بين أمور شتّى، ما يكسر قلبَ الشاعر؟
في الواقع، يموت معظمنا دون الوصول إلى هذا النوع من السحر. عند إجراء مقابلة مع الشعر، على حافة ليل مكلَّل بقمر غابوي، حاولتُ إقناعه بالتحدّث عن مدى غرابة ذلك، لكن كلمتي المتحشرجة لم تصل إلى أيِّ مكان على الإطلاق. لم تكن تعرف أبداً ما إذا كان خجلها ذلك الذي لا يُقهر أو أسئلة غير لائقة أمّ أنَّ اللغةَ تُشكّل حاجزاً. لم تكن تعرف. من يدري: ربّما أرادت فقط الحفاظ على هذا اللغز؟ حقّاً، إن هذا غريب جدّاً لدرجةٍ يصعُب تصديقها، ولا يزال.
هذه أيام المعجزات المُذِهلة، والشاعر يختتم بلاده بمرأى معبر رفح المصري؟ هل العيش في برشلونة، بعد ذلك، أعطاني بعض العزاء؟ هل جعلتني المدينة الطيّبة الزاهرة، التي تشتغل مثل المكوك، أشعرُ وكأنّني نوعٌ من الأمير؟ وهل هنالك كنتُ أعيش حياةً متواضعةً للغاية، دون تجاوزات وأعمل كما كان من قبل أو أكثر لأكون قادراً على العيش ـ لذلك لا تتمتع حياتي بالسحر المُبتذل؟
هل كنتُ هناك مثلَ أيّ شخصٍ يُعطي قبلتين لأيّة أنثى يقابلها في نشاط ثقافي، كما جرت عادة الكتالانيين؟ وهل رغم كل شيء، أنا غني بأشياء كثيرة، ولكن ربما ليست مادية بالضرورة؟ المال؟
لا: لم أهتم بذلك قط، منذ وعيت الدنيا. ربما بسبب ولادة في مخيَّم وتعرّفي على ماركس والشعر، منذ إرهاصات فترة المراهقة؟ هل القلب سخيُّ بتلك الحرية التي تختفي عندما يبدأ فائض الخيرات؟ هل الشعر وماركس يُستنتجان عن أو من نموذج التقشّف النبيل؟ هل الكآبة في مدينة أنتويرب أصبحت شائعة جدّاً لدرجة أنَّ الأطفال يتلونها ويغنّونها كلمة بكلمة، عبر كلّ الأغاني؟ هه؟
يموت معظمنا دون الوصول إلى هذا النوع من السحر
هل الشاعر بحقّ، في بحر من أضواء النيون، من هو الملتزم سياسياً تجاه اليسار وله تلك الروابط العضوية التي لا بدَّ أنّه اعتاد على إيجادها - قطعةٌ أدبية تحدّثت عن يساريّين كضحايا لمعسكرات الإبادة النازية، الصليب المعقوف، وفضّلوا مكافأة أشباح البطل الفدائي الأعزل؟ الشاعر؟ الفنان رائدٌ مهما كان؟ ربّما ماتت الأحلام الموسيقية، لكن الروح استمرّت؛ وكان عليه فقط العثور على موقع وتحسين عملية الالتزام به؟ لقد كنتُ أعلمُ أنّه كان هناك شيءٌ آخر. أردتُ أن أفعلَ شيئاً مباشراً لتغيير شيء ما؟ هل القاعدة هي التالي: لو كنت حيّاً، هذا يعني أنَّ كلَ شيءٍ ممكنٌ؟
الشاعر؟ كانت لديه تلك القدرة السحرية الشائعة جدّاً في الشعراء والفنّانين لرفع الأشياء فوق مستوى العادي والمتوسّط، من بين كلّ الهراء والوسطاء الحاليّين؟ لِمَ تَلَقّي باقة ورد على باب جمعية الطعام، وأنت في طابورٍ طويل، يجعلك تشعرُ ببعض السموّ والشفافية؟ إنَّ الوردَ في هذا المقام لأرقى مليون مرّة من الحشيش، مع أنّ تأثيره على الواقفين يستمرّ لحظات.
* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا