حجر ما بعد الطوفان
منذُ القِدَم
كانت الآلهة تنتحلُ وجهَ الحجر
لتماثيلها
لم تنسَ الشواهدُ الحجريةُ
جُثثَ الشهداء التي تحرُسها
في سراديب الأبد.
إنها الأرضُ
تستردُّ الدمَ المراقَ
حجراً.. حجراً..
أيها الشعراءُ
ابحثوا في القواميسِ
عن الأحجار.
هل سنتركُ للحجر
أن يكتُبَ وبأبجديتهِ
قصيدة الأرض.
حجرٌ على أرض السماء
صرخة على سماء الأرض.
مَرَّ أطفالُ فلسطينَ من هنا
وتركوني،
لم أكنْ حجراً
صرخَتي لم تكُنْ ذراعاً.
أعرفُ أنّ الحجر
سيمدُّ أمامَنا الأرضَ،
وأنّ الأطفالَ
سينشُرونَ فوقَها الزمن،
ولكن،
من يحملُ للشعبِ طعنةَ الخليفة؟
اقتربْ من شاطئ الدمِ الحجري
واغسلْ أحلامكَ الرطبة.
إنّ موكبَ الحصى والأطفال هذا
يقودُ شعباً من الخلفاء
خارجَ التأريخ.
تعالَ، أيها الموكبُ الحجري
إلى شرفاتي الزجاجية
ضع يَدَكَ في يدي
وقبل أن أرميكَ،
ارمني.
أقفُ وحيداً أصمَّ متوحّشاً
ولا أُشبِهُكَ،
أيّها الحجر...
سَنتفقُ الليلةَ على الكتابةِ من جديد،
سأكونُ الصفحةَ وتكونُ الكلام
لكنكَ مفردةٌ خرساء
وأنا شعوبٌ من الصفحات.
لقد مَلأتْ تماثيلُنا المهدّمة الأرضَ
في طريقِ الأطفال
وها هُم يُلقونَ بأحجارِها بعيداً
ليمرّوا.
لسنا مرايا
وليستْ صرخاتُنا انكساراتٍ
لسُقوطِ الحجر.
طفل عملاقٌ يبكي
دموعٌ يابسةٌ تتساقطُ
من سحاباتِ عينيه،
حجر.
لكي تتشبّه بالحجر
ارتطِمْ بالمرآة،
وجرِّبْ
أن تتحطّمَ أنتَ.
اتركْ في كهفِ اللغةِ طفلاً
لم يأتِ من ماضيك
ولا تُدركهُ غياهبُ جثّتِك.
لقُرونٍ خَلَت
نَسكنُ في حكايةِ خَربة
لم نتعلّم بعدُ خرابَها.
من أعلى تلّةٍ في الجزيرة
سنُدحرج القوافلَ
والقصائدَ
والأطلال.
قفي أيتها الناقةُ العربيةُ،
هذه حدودُ الصحراء
أطلالُ الدمِ المتحجّرِ
وآخرُ كلمةٍ في مُعلّقةِ
الجثّة.
الشرفاتُ أحجارٌ قمرية
لعشّاقٍ ماتوا.
ضَعْ كلمةً فوق كلمة
صمتاً فوق صمت
قتيلاً فوق قتيل
يوماً فوق يوم
حجراً فوق حجر
املأ حقائبكَ
وامضِ.
الظلالُ التي لا تموت
تتشقّق تحت الأقدام.
رصاصةٌ واحدة تكفي
لتُقنعَ هذا الطفلَ العنيدَ
ليعودَ للعبِ... بالمطلق
رصاصةٌ واحدة
وتُرضعُ هذه الأمُ وليدَها
دماً أو حجراً
رصاصةٌ يُطلِقها شعبُ النبوءات
تكفي لتبنيَ في كُلِّ صدرٍ معبداً.
رصاصةٌ وتعودُ أيها الطفل
حجراً يرمي حجراً.
رأيتُ طفلاً يمسكُ بحجر
يعضّ بأسنانِه على صَرخة
وقد تركَ في قميصي جُثتَهُ الصغيرة.
من أينَ تدخلُ أيها الصبيُّ
لتمزّقَ هذا الهواء الذي صار لحاءً
لشجرةِ الوقت
وجدَ النهرُ الحجريُّ
الضفّة..
يبقى الحجر
في مسيرة الأيدي
نهراً ينبعُ ويصبُّ في نقطةٍ واحدة.
في الليل الحجريّ
أقمارٌ لا تغيب...
الماضي
نكتبهُ على الأشجار، ليبقى.
الآتي
نكتبهُ على الأحجار، لنبقى.
سندخلُ إلى قبرٍ في تخوم الخلافة
وبعد أن نعدَّ قائمةً
بأسماء الأحجارِ الشريفةِ والمؤمنة
نكتبُ التأريخ.
في مقهى بالضفّة
سنلعبُ النرد بين الحجر والتوابيت.
عرفَ الغزاة أن يحتلّوا الأرض
وأن يلعبوا بالتأريخ.
وعرف الأطفال أن يحتلّوا التأريخ
وأن يلعبوا بأرض.
إذا ما نجحنا اليوم
أن نطليَ الحجرَ بالأحمرِ أو بالأسود
فإننا سنستبدل به غداً
حقائبَ السامسونايت.
لم نتغيّر كثيراً؛
أمس كانتِ الأرضُ تحت أقدامِنا
واليومَ صارتْ في أيدينا.
هذه المرّة،
سنمدُّ إلى الأرضِ يداً
لا أعناقاً.
التأريخ زخّةٌ هائلةٌ من الرمل
تسقطُ من عُنقِ غيمة
مُثبتةٍ في سَقفِ السماء
يَثقُبها حجرٌ لطفلٍ غاضب.
بعد أن سمعَ العدو حماسةَ الحجر
صار يشُكُّ في صمتِ الأشجار
وعويل الرياح.
حَجَرٌ
تلك ذاكرةٌ تصلّبتْ
مرةً وإلى الأبد.
في مُدن الضفّةِ
الحجرُ قديم
القتلُ قديم
والأطفال قدماء.
بين طفل لم يتجاوز العاشرة
وحجر يرضع الأبد،
أيّنا الوليد؟
من منّا كان يرتضي أن يقالَ له:
إنّ مستقبلَك حجرٌ.
قبلَ الموت
بعدَ الموت
لا بُدَّ من المكوثِ طويلاً كحجر.
حجرٌ،
لكي ننتظر خارج الزمن.
حجرٌ،
صمتٌ عمودي.
حجرٌ،
يتناسلُ وحيداً.
حجرٌ
آتٍ من بحارٍ شرقيةٍ
جفّت قبل الطوفان.
حجرٌ
ينامُ في سريرِ القتيل.
حجرٌ
يَرتعدُ من الخوف
وتقتلُه الوِحدة.
حجرٌ
يُمسِكُ بنا بالأحرى.
حجرٌ
شكلٌ ليس إلّا
لجسد الموت الذي لا يموت.
لسنوات طويلةٍ
يهمسُ في أذني
ولا يتفتّت.
في التظاهرة
قادني حجرٌ وعلّمني
أن أسقط.
كانت الآلهة عندما تَغضُبُ على
شعب ما، تحكمُ عليه أن يلعقَ
أسوارهُ حتى يمحوها.
■ ■ ■
تمثال
أن تَسجُنَ حجراً في ماض.
أن تكذبَ على الأطفال،
بأنهم لن يموتوا
وعلى الجدران،
بأنها قد تُغيّرُ شكلَها،
وعلى المسيرةِ،
بأنها تَنتهي بالخلود
لمجردِ الوقوف.
أحياناً
يسقطُ حجرٌ هائلٌ
في مربع القلبِ الصغير.
■ ■ ■
في التكاثر
الجراحُ أُمُّنا التي ماتَتْ
بَعدَ أَنْ وضَعَتْنا
الكلماتُ حَواملُ،
إما أن تلِدَ أو تُجهضَ.
■ ■ ■
في الجغرافيا
في البحثِ عن المجهول
تَكتملَ الرحلةُ بالوصول أخيراً
إلى المكان الذي لم نغادرهُ.
■ ■ ■
في اليقظة
ينامُ الحلمُ فأغطّيهِ،
بجسدي،
هكذا أستفيق.
* شاعر عراقي مقيم في باريس