مثّل بيان "الأحد عشر" مسرحياً في مطلع الستينيات رافداً مهماً لانطلاق تجربة الحداثة متخطياً تراكمات التأسيس في المسرح التونسي آنذاك. من هذا المانيفستو انبثقت عدة فرق مثل "المسرح الجديد" للفاضل الجعايبي والفاضل الجزيري ومحمد إدريس وجليلة بكار، و"مسرح المثلث" بإدارة التشكيلي الراحل الحبيب شبيل، و"مسرح فو" مع توفيق الجبالي ورجاء بن عمار والمنصف الصائم ورؤوف بن عمر.
ورغم تكاثر الفرق المسرحية، إلا أنها كانت تعاني من أزمة فضاء ومأوى تقيم تحت غطائه عروضها. هكذا، بادر الممثل والمخرج توفيق الجبالي (1944) وقام بإطلاق ما يُعرف حتى اليوم بـ "التياترو" (1987) في المشتل المتاخم لحديقة الـ"بلفدير" في تونس العاصمة. كانت البناية أُعدّت أصلاً لتكون قاعة سينمائية، لكنها لم تجد من يموّلها، فاستفاد الجبالي من قانون قديم لحكومة محمد مزالي ينصّ على ضرورة إقامة فضاء ثقافي في ساحات العمارات والمشاريع الكبرى.
مع حلول هذا العام، يُتم فضاء "التياترو" عامه الثامن والعشرين. يقول الجبالي لـ"العربي الجديد" إن سر صمود "التياترو" واستمراريته كفضاء خاص، اعتماده على منهج الاختبار والتجريب المستمر، "إذ إن الفن مقاربة لا تقدّم حلولاً نهائية للقضايا الراهنة". ويعتبر أن الفنان المسرحي يمارس دوره المزدوج كممثل ومخرج في العرض من منطلق عميق وهو أنه فنان حِرَفي (حرفي الخشبة) وليس محترفاً، إذ إن "للاحتراف نُظمه وقوانينه القاسية والصارمة على الخشبة وفي غرف التوضيب الركحي".
ويضيف: "إن على الفنان أن يعي مرتبته الحقيقية، لا أن يكون حاملاً لألقاب سلطنة في مكان لا يصحّ أن يكون مملكة".
بالنسبة إلى الجبالي فإن تونس تفتقر إلى البنية التحتية الضرورية لإقامة مسرح احترافي متكامل، ويتساءل كيف لمخرج أنجز ما يزيد على خمسين عرضاً ألّا يملك بطاقة محترف، وكيف لممثل أن يقدم مسرحاً متطوراً وهو يترك عمله ليطرد الجرذان من ركح وأقبية صالة العرض؟ بل ما جدوى ما تقدّمه قرابة 160 فرقة مسرحية في البلاد، هي أشبه بعربات مجرورة كعبء على مسرح يجاهد ويسعى إلى التكيّف مع معيقاته وإلى تجاوز إكراهاته؟.
كسب "التياترو" جمهوراً وفياً له حتى في دوامة الأزمات والمعيقات التي يواجهها، وفق ما يقوله الجبالي. إنه جمهور ارتبط بالمسرح الذي قدّم "عطيل" شكسبير و"مذكرات ديناصور" المقتبسة عن "حوار في المنفى" لبريشت و "فلسطينيون" المقتبسة عن نص "أربع ساعات في شاتيلا" لجان جينيه و"المجنون" لجبران خليل جبران، وحتى "مانيفستو السرور" المستوحى من كتابات علي الدوعاجي.
وقد أُضيفت إلى هذه السلسلة، أخيراً، مسرحية "كلام الليل" (النص والإخراج والتمثيل للجبالي) التي يعتبرها صاحبها دليلاً على كسب الجمهور، إذ تواصلت عروضها لسنوات في سلسلة من عشرة أجزاء، حتى وصلت إلى الجزء الحادي عشر بعنوان "كلام الليل يسطو عليها لصوص بغداد".
عن البعد السياسي في مسرحه، يوضح صاحب "هنا تونس" أن "السياسة مادة تُصنع منها أحداث العرض، والمسرحي ليس معلقاً فورياً على ما يجرى من يومي وراهني". لكن الجبالي ساخر كبير من هذه الأحداث أيضاً، وهناك حضور واضح لعنصر الإضحاك في أعماله.
هنا يلفت مخرج "ضد مجهول" إلى خطورة غياب الضحك لدى السياسي الذي يجعله سجين "ميغالومانيا" (الشعور بالعظمة) مقيتة، تقرّبه من "التعصب والعجرفة وربما التطرّف، وهو آفة العصر بامتياز".
تجلّت سخرية الجبالي السياسية في عرض "فهمتلا"، إذ كان موضوع هذه المسرحية الصامتة تصحّر حياة التونسيين طيلة حكم بن علي. وفي مسرحية "ويل للممثلين" التي استقاها الجبالي من كتابات الفيلسوف ديدرو الذي كان من بين الممهدين للثورة الفرنسية.
وفي ما يخص المسرح بعد الثورة التونسية، يرى الجبالي أن البلاد تعيش فترة انتقالية دقيقة ومعركة حضارية، وأن على المثقفين "إنجاز ثورتهم الثقافية ذات المضمون العميق المشدود إلى قيم مُثلى، لا ثورة موهومة ترفع شعارات خارجة من قناعات اليوتوبيا".
أمّا بالنسبة لواقع المسرح التونسي فقد قطع أشواطاً كبيرة وحقق استقلالية نسبية عن المؤسسات، بحسب الجبالي، رغم بقائه رهيناً لتمويل وزارة الثقافة في كثير من الأحيان. يقول: "إذا نظرنا إلى المنجز التمثيلي لما أسميه "المسرح المختلف" فإن خطوات المسرح التونسي كانت مثمرة، بينما بقي جُل المسارح العربية الأخرى مشدود إلى الكادر الأكاديمي وإلى المؤسسات البيروقراطية".
ويزيد: "علينا أن نعترف بوجود أباطرة لا يريدون اللعب بالمقدسات المسرحية أو بالمدنسات بالمعنى التجاري. مثلاً، يبدو أن المسرحين المصري والعراقي، مع وجود استثناءات قليلة مثل أعمال جواد الأسدي، بقيا محنّطين مشدودين إلى زمن الستينيات من القرن الماضي. في المغرب العربي تم الإجهاز على جُل المسرحيين هؤلاء، بينما وجد من أصروا على هذا النوع من المسرح أنفسهم مجبرين على الهجرة القسرية منه".