بات العنف خبراً دائماً يتدفّق على مدار الساعة. هذا هو المشهد اليومي المخيف للعالم الذي نعيش فيه؛ دولاً وجماعات وأفراداً، ما يشكّل خطراً على ما سيؤول إليه عالمنا إذا أصبح اللغة الوحيدة، فضمانة استمراره كما هو ملاحظ، مكفولة في التدمير المتوالي، غير أنّ الدول الكبرى تفادياً لهذا التطاحُن فيما بينها، تجد منفذاً له عبر أدواتها في الدول الإقليمية، بتحويل أراضيها إلى ساحات قتال وتصفية حسابات. في الديمقراطيات الغربية تعبّر عنه أحزاب عنصرية، ما زالت تكتفي بالصراخ والمظاهرات والتحرّش بالمهاجرين. أمّا الدول "المتخلّفة" التي لم تصبح بعد نامية، فيُستخدَم العنف بشكله الأكثر بدائية، ما يرقى أحياناً إلى حملات إبادة. يُترجَم العنف على جميع الأصعدة بالاغتيالات والمسدّسات كاتمة الصوت، والأسلحة الخفيفة، دونما استثناء الثقيلة والكيماوي.
في العقود الأخيرة، اقتحمت المشهد العالمي الجماعات الإرهابية بقوّة غير مسبوقة، ما أضاف عنفاً كان هو الآخر غير مسبوق بهذه الوحشية، سواء تغلغل أو كان كامناً في مجتمعاتها، فقد هدّد أمن العالم من ناحية انتشاره كفكرة تعمل على توليد إرهابيّين انتحاريّين.
يزداد الاعتقاد كل يوم ألّا منجاة منه. إنه الثقافة المضمَرة التي يسير العالم ضدّها وعلى هديها، إنها طابع العصر المحير، ولا بديل منها في التفاهم الودي ولا القسري، سواء على مستوى الواقع، أو على مستوى الخيال، وإفرازاته في التلفزيون والسينما ومشاركة وسائل التواصل.
يستمر العنف في تصدُّر العالم، بتوافر مستفيدين منه، ليسوا باعة الأسلحة فقط، بل هؤلاء الذين لديهم رؤى عن عالم بديل، ديني مختار أو عنصري متفوّق، يمتاز كلاهما بالعمل على "تنظيف" العالم من الشعوب "الكافرة"، أو من الشعوب "غير المتمدّنة" الرازحة في أمراضها وفقرها ومجاعاتها.
وإذا كان قد اتُّفق على إدانة الدعوات الدينية المتطرّفة، فإنَّ الدعوات العنصرية تكتسب في كل يوم مؤيّدين لها ومدافعين عنها، وتعمل على إيجاد آليات حازمة لمنع الهجرة إليها، ولا يمكن ضبط تدفّقها عبر الحدود، إلّا بمنع المهاجرين من القدوم من بلدان المنشأ، بدعوى أن البلاد المتخلّفة تشكّل اعتداءً على البلدان المتقدّمة، وهو عنف غير مقبول، يُوجَّه فيه الاتهام إلى اللون الأسود والحجاب والبرقع والبوركيني... أي "الثقافات المتزمّتة" التي تعمل على تشويه جماليات صرعات الأزياء ومايوهات لا تزيد على خيوط... أي "الثقافات المتقدّمة"، يخشى من التأثير فيها، ما يحيلنا على تقدّم لا يني عن الاندفاع إلى الأمام، يخشى أن تطيحه ثقافات لا تني تتراجع إلى الخلف، وكأنّ الحضارة الغالبة هي حضارة التخلّف.
تشجّع هذه الأنواع من دعاوى العنف على قيام الدكتاتوريات بإشراف غربي، تحت زعم أنه لا يمكن تخفيض منسوب الهجرة إلّا بيد حديدية، ولا علاج لها سوى القمع، ما يمنحها صلاحية اجتثاثه بالقتل، وحده يوقف هذا السيل من المعدمين الفقراء الباحثين عن فرصة عمل. أمّا التشجيع على قيام الديمقراطية، ففكرة خاطئة. وإذا كانت حالياً لا تتوافر إلّا في الدول الغربية، فلأنها لا تصلح لبلدان تنتج الفوضى والأمراض والموت.
هذا نصيب التحضّر والإسهام الثقافي في تجذير العنف، وذلك بنفي فكرة التشجيع على الديمقراطية في بلدان بحاجة إليها، وتعميم فكرة أن تربتها غير مواتية لهذا النوع من الرفاهية، رغم أن الثقافة تدرك أن العنف ما هو إلّا استثناء في دورة البشرية، ولم تزدهر الحضارات إلّا في فترات السلام، وكلّما كانت أطول، عمّرت الحضارة قروناً، ولم تدمّرها سوى الحروب.
من الطبيعي الاعتراف، باستحالة إلغاء العنف، وأن استئصاله سيُمنى بالإخفاق، لكن التواضع أمام جبروته، لا يلغي العمل على عدم تجدد القديم، أو اختلاق جديد يكسر آمال البشرية بالعداوات والكراهيات.