في منطقة السوق العربي بوسط الخرطوم، حلت وكالات السفر التي تساعد الشباب السوداني في البحث عن مستقبل اقتصادي أكثر إشراقا في مصر محل بعض متاجر مواد البناء التي كانت مكتظة في السابق في المركز التجاري الرئيسي بالعاصمة.
يعكس النزوح حالة اليأس المتزايدة إزاء الآفاق في الداخل، حيث يعاني الاقتصاد من السقوط الحر وتقول الأمم المتحدة إن نقص الغذاء يؤثر على ثلث السكان. ويشيع انقطاع الكهرباء والمياه، بينما تهز الاحتجاجات المناهضة للجيش الشوارع منذ انقلاب وقع قبل نحو عام.
ويقول وكلاء سفر ومهاجرون إنه في أعقاب استيلاء الجيش على السلطة، عندما أطاح حكومة بقيادة مدنية كانت قد وعدت بفجر اقتصادي جديد، تسارعت أعداد المغادرين.
ولا توفر مصر، التي تستضيف بالفعل جالية سودانية تقدر بنحو أربعة ملايين نسمة، وظائف مربحة تذكر على غرار تلك التي يبحث عنها السودانيون عادة في الخليج، لكنها تعد وجهة أسهل ومألوفة في كثير من الأحيان.
وبينما يسافر البعض في رحلات عبر البحر المتوسط محفوفة بالمخاطر إلى أوروبا، تتمتع مصر بمزايا ملحوظة، حيث يمكن للشباب السوداني السفر إلى الشمال بتكلفة أقل والبحث عن عمل، بينما تسعى العائلات للحصول على الرعاية الصحية والتعليم لأطفالهم وعيش حياة مستقرة.
وقال منذر محمد (21 عاما) بينما كان يحاول حجز رحلة بالحافلة إلى مصر في وكالة أسفار بالخرطوم "الشباب ديل دايرين يكونوا (هؤلاء الشباب يسعون لتأمين) مستقبلهم، وفي البلد دي (هذه) ما في (لاتوجد) طريقة".
وقال مالك إحدى شركات الحافلات في الخرطوم إن ما يصل إلى 30 حافلة تنقل نحو 1500 راكب إلى مصر من السودان يوميا، وقال إن هذا يمثل زيادة بنسبة 50 بالمئة عن العام الماضي، على الرغم من الارتفاع الحاد في أسعار التذاكر.
وذكر اثنان من وكلاء السفر أن عدد الشبان الذين يسعون للحصول على تأشيرات قد تضاعف تقريبا في العام الماضي.
ولا توجد بيانات متاحة تظهر توجهات السفر في الآونة الأخيرة من السودان إلى مصر. لكن دبلوماسيا مصريا قال إن الأرقام في ارتفاع منذ عام 2019، عندما أطاحت انتفاضة بالرئيس السوداني السابق عمر البشير.
وقال إن "حركة السودانيين إلى مصر تتزايد بشكل تدريجي ومتناسب مع تدهور الوضع في السودان".
الضرائب والرسوم
في السوق العربي، يقضي العمال والكهربائيون وغيرهم ممن يفترض وجودهم عادة في مواقع البناء أوقاتهم في شرب الشاي ولعب الطاولة أثناء انتظارهم للعمل.
وقال صاحب أحد متاجر مواد البناء التي لا تزال تعمل في السوق: "زمان تشتهي تقعد خمسة دقايق حسي اليوم كلو بتكون قاعد".
ويقول أصحاب المتاجر والمحلات التجارية إن جزءا كبيرا من الدخل الضئيل الذي لا يزال بإمكانهم جنيه يذهب إلى سداد الزيادة في الضرائب والرسوم ورسوم الترخيص التي أقدمت عليها الحكومة التي فقدت دعما اقتصاديا خارجيا بالمليارات بعد الانقلاب.
وقال وزير المالية جبريل إبراهيم إن الدولة ستعتمد على مواردها الداخلية لتمويل الميزانية. وارتفعت الضرائب والرسوم بنسبة 400 بالمئة أو أكثر في بعض الحالات، وفقا لأصحاب الأعمال، وقال صاحب متجر مواد البناء إنها"أثرت علينا تأثيرا شديدا".
وأغلق التجار الأسواق الرئيسية الأسبوع الماضي في مدينتي سنار والقضارف احتجاجا على الرسوم. كما تواجه الحكومة، التي لم يتم تعيين رئيس لها منذ الانقلاب، إضرابات لعمال الكهرباء والصرف الصحي وكذلك لأطباء الامتياز (المتدربين) بسبب تدني الأجور. ولم ترد وزارة المالية على طلب للتعليق.
وتراجع معدل التضخم الرسمي من 423 بالمئة العام الماضي إلى 117 بالمئة في أغسطس/ آب، وهو ما يقول رجال أعمال ومحللون إنه يعكس الركود الاقتصادي، لكنه لا يزال من أعلى المعدلات على مستوى العالم.
وانخفضت قيمة الجنيه السوداني بنسبة 950 بالمئة خلال السنوات الأربع الماضية، بينما أصبح الوقود، الذي كان مدعما بشكل كبير في السابق، أغلى منه في العديد من البلدان الغنية.
ويقول أصحاب الأعمال إن معظم الناس لم يعد بإمكانهم تحمل تكاليف أكثر السلع الأساسية، مما تسبب في إبطاء نشاط العديد من التجار والمصانع أو إغلاق متاجر.
وقد يدفع ذلك المزيد من الناس للمغادرة. وقال متحدث باسم المنظمة الدولية للهجرة إنها "تتوقع أن يفكر المزيد من الناس في الهجرة كخيار، أو كآلية للتكيف" في إشارة إلى السودان.
وظائف متدنية
الظروف في مصر صعبة أيضا، حيث بلغ التضخم أعلى مستوياته منذ ما يقرب من أربع سنوات، كما أن حوالي ربع الشباب عاطلون من العمل، وفقا لمنظمة العمل الدولية.
وكثيرا ما ينتهي الحال بالشباب السوداني إلى العمل في وظائف متدنية في المصانع ومناجم الذهب أو كعمالة منزلية، وفقا لوكلاء سفر ومهاجرين. لكن لديهم مجتمعا يمكنهم الاعتماد عليه، ويمكن أن يكسبوا أكثر مما يكسبونه في بلدهم.
وقالت ملاذ أبكر البالغة من العمر 23 عاما والتي انتقلت إلى مصر منذ نحو عامين "البيت كلو كان شغال (في السودان) وما بندخل دخل كبير وكلو بيمشي للأكل والشراب".
وتقول إنها الآن تستطيع أن ترسل لعائلتها ما يصل إلى 120 ألف جنيه سوداني (208 دولارات) شهريا من عملها كجليسة أطفال.
وظهرت المحلات التي تبيع الأطعمة السودانية في القاهرة، كما تعلن المدارس الخاصة عن فروع مصرية على اللوحات الإعلانية في الخرطوم، ويسافر الكثيرون إلى مصر للحصول على الرعاية الصحية التي تراجعت بشكل متزايد في بلدهم.
وبالنسبة للبعض، مثل آدم البالغ من العمر 23 عاما والقادم من إقليم دارفور المنكوب بالحرب، فإن مصر هي محطة قبل محاولة خوض الرحلة المحفوفة بالمخاطر عبر البحر المتوسط إلى أوروبا.
وقال وهو يقف في طابور للحصول على تأشيرة في القنصلية المصرية بوسط الخرطوم مع عشرات آخرين "السفر عبر البحر خطر، ولكن أفضل المخاطرة والحصول علي حياة كريمة بدلا عن المعاناة والفقر وفقدان الأمل في السودان".
(الدولار= 578 جنيهاً سودانياً)
(رويترز)