أكثر من أي مواطن آخر في معظم دول العالم، يعيش المواطن المصري منذ منتصف 2013 في معاناة مزمنة، لارتفاع أسعار السلع الغذائية، وعلى رأسها رغيف العيش والأرز والسكر وزيت الطعام واللحوم والدواجن وبيض المائدة وغاز البوتاغاز، وكذلك بسبب ارتفاع أسعار الخدمات العامة، الكهرباء ومياه الشرب والغاز الطبيعي إلى وقود السيارات والمواصلات العامة.
ومؤخراً، تحولت المعاناة المزمنة إلى حادة، وأصبح وجود طبق من الأرز والبيض على مائدة الغداء حلم كثير من الأسر، أما اللحم والدجاج فدرب من الخيال.
ليس فقط بسبب تضاعف الأسعار، ونقص السلع في الأسواق، وجائحة كورونا التي أفقدت ملايين العمال رواتبهم وحوّلتهم إلى عاطلين عن العمل جزئياً وكلياً، وتراجع دخل الذين لم يفقدوا وظائفهم، وارتفاع أسعار الوقود والطاقة، والحرب على أوكرانيا، لكن أيضاً بسبب حرمان المصريين من الإعانات الاجتماعية الاستثنائية التي قدمتها معظم حكومات العالم لمواطنيها، سواء العينية أو المالية، المباشرة من سلال غذائية ورواتب إضافية وإسقاط إيجارات السكن وفواتير الكهرباء والغاز والمياه، وغير المباشرة، مثل استقطاعات الضرائب على الدخل وبدل الخدمات الحكومية.
في ظلّ الأزمة الحالية، اشتكى كثير من المصريين على مواقع التواصل الاجتماعي من ارتفاع أسعار السلع الغذائية ونقصها واختفاء بعضها من الأسواق العامة ومن البقالات التموينية. وتساءل كثيرون عن أسباب الأزمة، وهل للمواطن من مخرج من هذه المعاناة المزمنة والتي لا تنتهي؟!
وهنا يمكن أن نفصل، بقدر ما تتيح مساحة المقال، في الأسباب الخاصة عن ارتفاع الأسعار في مصر، ثم نتناول الحلول الحاكمة لعلاج الأزمة.
أسباب الأزمة
أولاً: الأداء الاقتصادي المتردي منذ 2013، وأكثر من أي عهد مضى، وتسبب في سقوط أكثر من 60 بالمائة من المصريين في براثن الفقر. ويبدو أنّ النظام الحالي عاجز فعلاً أمام التحديات. فقال السيسي، في لقائه مع الصحافيين يوم الخميس 21 إبريل الماضي، يعني بعد شهر من بداية الحرب على أوكرانيا، إنه كان صريحاً ومباشراً مع المصريين، وقال إنّ التحديات الموجودة في مصر أكبر من كلّ رئيس وحكومة.
وقد شهدت مؤسسات دولية عريقة على أنّ أداء الاقتصادي المصري متردٍّ ويتجه للأسوأ. وقالت مديرة صندوق النقد الدولي، كريستالينا غورغييفا، في 20 إبريل الماضي، إنّ أوضاع الاقتصاد المصري في تدهور وتزداد سوءاً. ولا أدل على تدهور الأداء الاقتصادي من بناء إيرادات الموازنة على جباية الضرائب التي ستمثل 77 في المائة من الإيرادات.
فقد أعلن وزير المالية، محمد معيط، في بيان مشروع الموازنة الجديدة في مايو/أيار الحالي أمام البرلمان، أنّ الحكومة تتوقع حصيلة ضريبية تصل إلى تريليون و168 مليار جنيه، تعادل 63 مليار دولار، ارتفاعاً من 53 مليار دولار في العام الماضي.
ثانيا: فوضى القروض الأجنبية. في تقديري أن تخبط النظام في تقدير أولوية الاقتراض لمشاريع ثانوية وغير إنتاجية، وإهمال مشاريع قومية وإنتاجية مولدة لفرص العمل، هو أخطر آفات الاقتصاد المصري.
على سبيل المثال، يبني النظام العاصمة الإدارية الجديدة بتكلفة 60 مليار دولار، وخط السكك الحديدية بين العين السخنة والعلمين والمونوريل بتكلفة 26.5 مليار دولار، ومحطة الطاقة النووية في الضبعة بتكلفة 25 مليار دولار، ومحطات توليد الكهرباء بتكلفة 17.5 مليار دولار، رغم وجود فائض كهربائي يصل إلى 75 بالمائة من حجم الاستهلاك.
وفي ظل احتدام أزمة كورونا العام الماضي وبالتزامن مع إعلان وزارة الصحة عن وفاة 500 من الأطباء في ظل تردّي وعجز المنظومة الصحية، وقّع رأس النظام عقداً مع فرنسا لشراء 30 طائرة رافال بقيمة 4.57 مليارات دولار، قال خبراء عسكريون إنّها من دون جدوى قتالية، ولم تكن فعالة في أزمة سد النهضة ولا في مواجهة الإرهاب في سيناء.
وفي سنة 2015، اشترى النظام صفقة رافال مماثلة بقيمة 5.7 مليارات دولار. أما الطرق والكباري، والتي يسوق لها النظام قاطرة للتنمية، فتكلفت 300 مليار جنيه، ولم يجنِ المواطن منها إلا الإتاوات وتعريفات المرور المبالغ فيها لحساب الجيش.
توسع النظام في الاقتراض الأجنبي حتى وصل إلى 145 مليار دولار، أدى إلى بعثرة موارد الموازنة العامة في خدمة فوائد الديون وأصولها، إذ تبلغ أقساط الديون وفوائدها، وفق بيان وزير المالية، 90 مليار دولار، ما يمثل 54 في المائة من إجمالي الإنفاق العام، مقابل 63 مليار دولار العام المالي الماضي. سداد فوائد الديون سيحقق عجزا بين الإيرادات والمصروفات بنحو 30 مليار دولار، سيكون على حساب مخصصات التعليم والصحة والدعم الاجتماعي والاستثمار.
ثالثاً: تعويم العملة وتخفيض القوة الشرائية للجنيه إذعاناً لمطالب صندوق النقد الدولي، له تأثيره المباشر على تضاعف أسعار السلع والخدمات وزيادة معاناة المواطن في الحصول على ما يسد رمق أولاده. إذ فقد الجنيه المصري ثُلثي قيمته الشرائية وتضاعفت لذلك أسعار السلع.
على سبيل المثال، زادت أسعار زيت الطعام من 3 جنيهات للتر في منظومة البطاقات التموينية في سنة 2013 إلى 27 جنيها، وزادت أسعار السكر من 1.25 جنيه للكيلو إلى 10.5 جنيهات، وزادت أسعار الأرز من 1.5 جنيه إلى 10 جنيهات.
وانخفضت مقررات الفرد من 2 كيلو للفرد إلى كيلو واحد فقط للأسر التي يقل عدد أفرادها عن 4، و2 كيلو لباقي الأسر مهما كان عدد أفرادها. أما أسعار اللحوم والدواجن والأسماك والبيض، فتضاعفت ثلاث مرات على الأقل.
رابعاً: جائحة كورونا، وتقصير الحكومة في تقديم الدعم الاجتماعي لعموم المواطنين، فضلاً عن الفقراء والمحتاجين. ولم توجه الحكومة وفورات المواصلات العامة التي توقفت تماماً لدعم الأسر غذائياً.
وكشفت دراسة للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الحكومي حول تأثير فيروس كورونا على استهلاك الأسر المصرية، أنّ 5.4 بالمائة فقط من الأسر المصرية تبقت منحة العمالة غير المنتظمة، وهي 500 جنيه، 32 دولاراً، للأسرة ولمدة ثلاثة أشهر فقط!
في المقابل، كشفت الدراسة أنّ ثُلث الأسر المصرية أصبح لا يكفيها دخلها، وأنّ نصف الأسر التي لم يكفها الدخل اضطرت إلى الاقتراض للوفاء بحاجة أولادها من الغذاء الضروري، وأنّ 17 بالمائة منهم قبلوا تبرعات من أهل المحسنين، وأنّ 15 بالمائة من الأسر باعت جزءاً كبيراً من ممتلكاتها للوفاء بمتطلباتها الحياتية.
خامساً: تخلي النظام عن خطط الاكتفاء الذاتي من الأغذية الأساسية، القمح والأرز والذرة، والتوسع في استيراد الأغذية بالدولار من الدول الراعية له لشراء الشرعية الدولية على حساب الأمن القومي المصري، وعلى حساب دخل الفلاح المصري. ومحاربة زراعة الأرز وتغريم وسجن من يزرع أكثر من المقرر.
أدت هذه السياسة إلى استمرار مصر، عمدا أو جهلا، كأكبر مستورد للقمح في العالم بمعدل 13.1 مليون طن، ورابع أكبر مستورد للذرة الصفراء بمعدل 9.7 ملايين طن، والاعتماد بنسبة 97 بالمائة على واردات زيت الطعام من الخارج. وتحولت مصر من مصدّر للأرز إلى مستورد له بمعدل 800 ألف طن.
هل يعقل أن تستورد الحكومة القمح الأجنبي من روسيا وفرنسا بسعر 460 دولاراً للطن، ما يعادل 8500 جنيه، يشتري النظام القمح من الفلاح المصري بنظام التوريد الإجباري بسعر 5900 جنيه للطن، بفارق 2600 جنيه في الطن لصالح الأجنبي، رغم فارق الجودة الكبير لصالح المصري. بخس أسعار المحاصيل هو إفقار للفلاحين يؤدي إلى التخلي عن زراعة المحاصيل الاستراتيجية.
سادساً: تحكم الجيش في مفاصل الاقتصاد الوطني، واحتكار موارد الأرض الصالحة للاستزراع ومقومات الإنتاج الزراعي والصوب الزراعية والإنتاج الحيواني والسمكي والتصنيع الغذائي، وفق معلومات دقيقة وثقها الباحث يزيد صايغ بمعهد كارنيغي.
سابعاً: تخفيض الدعم الاجتماعي بجميع صوره، بطريقة مباشرة برفع أسعار السلع، وغير مباشرة بتخفيض وزن الخبز ومقررات السلع الغذائية في منظومة البطاقات التموينية. وحذف ملايين الأسر تعسفياً وعشوائياً من منظومة دعم الخبز والسلع التموينية، وحرمان المواليد الجدد من كل صور دعم الغذاء، رغم زيادة معدلات الفقر والبطالة، وتأثيراتها على زيادة معدلات الطلاق وتعريض أطفال المستقبل للتفكك الأسري.
تضمن مشروع الموازنة العامة القادمة انخفاضًا بنسبة تتجاوز 8 في المائة في مخصصات دعم السلع التموينية، فقد خصصت الحكومة 4.68 مليارات دولار لدعم السلع التموينية، مقابل 5.3 مليارات دولار تمثل الإنفاق الفعلي المتوقع على دعم السلع التموينية بنهاية العام المالي الحالي في 30 يونيو/ حزيران المقبل.
ثامناً: تراجع موارد النقد الأجنبي من العاملين في الخارج، والسياحة، والصادرات، وقناة السويس، والتفريط في ثروات مصر البترولية في شرق البحر المتوسط لصالح دول أجنبية، والمحجرية والمنجمية لصالح الجيش، مع غياب مبادئ الشفافية والمحاسبة والمساءلة وإبعاد الكفاءات الوطنية.
ولا نغفل أن رئيس أكبر جهاز رقابي في مصر، الجهاز المركزي للمحاسبات، جرى عزله وسجنه بعد الكشف عن قضايا فساد بقيمة 600 مليار جنيه.
كلّ ذلك أدى إلى زيادة أسعار السلع الغذائية الأساسية بنسبة 29.3 في المائة، بحسب تقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الحكومي عن شهر إبريل الماضي. فقال إنّ أسعار الخضروات والفاكهة زادت بنسبة 66.2 في المائة على أساس سنوي، والزيوت بنسبة 36.6 في المائة، والحبوب والخبز 28.5 في المائة، والأسماك 24.4 في المائة، واللحوم والدواجن 22.3 في المائة.
علاج الأزمة
أولاً: دعم البحوث الزراعية، وتفويض الباحثين الزراعيين في تنمية الثروة النباتية والحيوانية بتحسين السلالات الوطنية، وليس بذبحها وإحلال الأجنبية محلها، والأخيرة تموت بتغيير البيئة. ودعم الفلاح المصري لتحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح والأرز والذرة.
وتطبيق الدورة الزراعية، حيث ترشد مياه الري بنسبة 20 بالمائة وتزيد الإنتاج الزراعي بنسبة 30 بالمائة. وشراء المحاصيل من الفلاح بأسعار محفزة لا تقل عن المستورد، وتوفير التقاوي عالية الإنتاج والأسمدة بأسعار معقولة.
من حسن الحظ أننا في موسم زراعة محاصيل الأرز والقطن والذرة. وهي فرصة تاريخية لمواجهة تداعيات الحرب على أوكرانيا، ربما لا ندركها مرة أخرى، وإذا استمرت الحرب لشهر يونيو فسوف تستمر التداعيات الخطيرة على أسعار الغذاء لسنة 2023.
لذلك، يجب الكف عن محاربة زراعة الأرز، وزيادة المساحة في هذه الأيام إلى 1.8 مليون فدان، ليكون بديلاً جزئياً لرغيف الخبز والمكرونة. وتشجيع زراعة القطن لتصل المساحة إلى مليون فدان، والذرة لمساحة 4 ملايين فدان لحل أزمة زيت الطعام والأعلاف.
ثانياً: وقف الاقتراض الأجنبي بجميع صوره، وطرح المشاريع القومية الإنتاجية بنظام الانتفاع المفضي إلى الملكية العامة. وعدم التعاطي مع إملاءات صندوق النقد. والكف عن تخفيض الدعم الاجتماعي بكل وسائله. وإعادة ملايين الأسر المحذوفة تعسفياً من منظومة دعم الخبز والبطاقات التموينية.
وضم المواليد الجدد في الأسر المستحقة للدعم إلى منظومة دعم الخبز والبطاقات التموينية. حيث إن استثمار جنيه واحد في الطفولة يعود على الاقتصاد القومي في المستقبل 13 ضعفا.
ثالثاً: رفع يد الجيش عن احتكار الأرض الزراعية وموارد الثروة السمكية والحيوانية والصوب الزراعية، وتوزيعها على شباب الخريجين وصغار المزارعين، ودعمهم بالإرشاد والتدريب والتمويل المالي غير الربحي.
رابعاً: إصلاح السياسة المالية والنقدية لتشجيع العاملين المصريين في الخارج على زيادة التحويلات والاستثمار الأجنبي في الاقتصاد الوطني. والنهوض بقطاع السياحة وإسناده للخبراء. وتصفير المشاكل مع دول الجوار العربي والأفريقي، والمشاركة في خطط تنميتها باعتبارها عمقا استراتيجيا وسوقا واعدا للمنتجات المصرية، وأقل تشدداً تجاه المواصفات من الدول الأوروبية.
خامساً: استرجاع ثروات مصر البترولية في شرق المتوسط، وإدارة الثروة المحجرية والمنجمية بكفاءة وشفافية وتنميتها. وكشف السرية عن حسابات موارد قناة السويس وتوجيهها لتنمية مشروع محور قناة السويس. وحماية حقوق مصر التاريخية المنهوبة في مياه النيل، باعتبارها شريان الحياة وعماد التنمية. وكشف الغطاء عما يدور في سيناء وتنميتها، ورد الاعتبار لأهلها وتمكينهم من مواردها.
أخيراً، وقبل كلّ ما سبق: المصالحة الوطنية والإفراج عن المعتقلين، وتعويض الضحايا. والبدء بحكومة تكنوقراط لضبط الأداء الاقتصادي، وإعطاء الأولوية للمشاريع الإنتاجية، وتغليب مبادئ الشفافية والمحاسبة في كل الوزارات. والاتفاق على نظام سياسي جديد بكل معنى الكلمة.
فالإصلاح السياسي يسبق الاقتصادي أو لا يتأخر عنه. وقديماً فشلت ديكتاتوريات الخبز، التي تساوم الشعوب على رغيف الخبز في مقابل التفريط في الحرية، في بناء اقتصاد وطني، وأهدرت حق الشعوب في الحرية والحياة الكريمة، بل وأوصلتها إلى أكل الجيف وأوراق الشجر.