رغم زيادات الأجور التي يقرها أرباب العمل في المملكة المتحدة، لتعويض العمال عن ارتفاع الأسعار في الأشهر الأخيرة، إلا أن موجات الغلاء التي وصلت إلى أعلى مستوى لها في نحو 40 عاماً تلتهم هذه الزيادات، بل وتضطر الكثير من الأسر إلى تغيير معيشتها وأنماط استهلاكها.
ووفقا للأرقام الرسمية، يعاني العمال البريطانيون من أكبر انخفاض في رواتبهم الحقيقية لما يقرب من تسع سنوات، في ظل ارتفاع معدل التضخم إلى 7% في مارس/آذار الماضي.
ومن المتوقع أن يواصل التضخم صعوده إلى نحو 8% خلال إبريل/ نيسان الجاري، بسبب زيادة تكاليف الطاقة بنسبة 54%، وهو ما سيؤدي إلى تكثيف الضغط على الأسر، حيث يرى اقتصاديون أن أداء الحكومة الحالية في كبح الغلاء هو الأسوأ على الإطلاق.
في المقابل، لا تواكب زيادات الأجور مستوى التضخم، إذ تظهر البيانات، الصادرة حديثاً عن مكتب الإحصاءات الوطنية، ارتفاع الأجور بنسبة 3.8% بين نوفمبر/تشرين الثاني 2021 ويناير/كانون الثاني.
ووفق مكتب الإحصاءات، فإن الأجور الأساسية باستثناء المكافآت تراجعت بنسبة 1.8% في الأشهر الثلاثة حتى فبراير/ شباط، بالنظر إلى معدلات التضخم المسجلة. وهذا التراجع هو الأكبر منذ أغسطس/آب إلى أكتوبر/ تشرين الأول 2013.
وفي مارس/آذار الماضي، جرى الإعلان عن خطط أخرى لزيادة الحد الأدنى للأجور، الذي يبدأ عنده رفع التأمين الوطني إلى 12570 جنيهاً إسترلينياً اعتباراً من 6 يوليو/تموز 2022.
مع ذلك، يحذر خبراء اقتصاد أرباب العمل من مطالبة الموظفين قريباً بزيادة الرواتب، ويلفتون إلى أنّ الناس مرغمون على دفع المزيد مقابل الغذاء والبنزين والرهون العقارية، لذلك سيطالبون برفع الأجور لتغطية هذه الزيادة.
تفاقم أوضاع البريطانيين المعيشية
ولا يتوقف التضخم عن الصعود منذ بداية العام الجاري، إذ ارتفع بنسبة 5.5% على أساس سنوي في يناير/ كانون الثاني، و6.2% في فبراير/شباط و7% في مارس/آذار، ويتوقع بنك إنكلترا أن يصل إلى 8% هذا العام، وهو ما سيفاقم أوضاع البريطانيين الاقتصادية.
ويقول دارين مورجان، مدير الإحصاءات الاقتصادية في مكتب الإحصاء الوطني: "بينما تستمر المكافآت القوية في التخفيف من آثار ارتفاع الأسعار على إجمالي أرباح الناس، فإن القيمة الحقيقية للأجور الأساسية تنخفض الآن بشكل ملحوظ".
في السياق، يشير الشاب دان، البالغ من العمر 35 عاماً، إلى تأثير الغلاء على ميزانية أسرته قائلا:" أدفع 1700 جنيها إسترلينياً لإيجار المنزل و270 جنيهاً ضريبة البلدية". ويلفت إلى أن زوجته توقفت عن العمل لإجازة الأمومة، وأن راتبه بالكاد يكفي الفواتير الأساسية على الرغم من حصوله على زيادة أجر منذ بضعة أشهر.
يضيف دان "الوضع مأساوي للغاية، حتى عندما تناقشت وزوجتي حول عودتها للعمل وإيداع الطفلة في روضة، صدمتنا تكاليف الروضة التي تبلغ 1700 جنيه إسترليني شهرياً".
ويتابع "بما أنّ زوجتي من أيرلندا الشمالية، أفكر جدياً في الانتقال للعيش هناك، لأن إيجارات المنازل تبدأ من 500 جنيه إسترليني، وهذا بحد ذاته بداية جيدة وتوفير كبير مقابل إيجارات البيوت في لندن".
أما جوزيف (50 عاماً)، موظف هو وزوجته ويقيمان في شقة متواضعة في لندن، فيقول إنّ زوجته حصلت على زيادة راتب الشهر الماضي، وتتوقع زيادة أخرى قريباً، ومع ذلك فإن ارتفاع تكلفة المعيشة السريع أرهقهما ووضعهما أمام خيارات صعبة في أولويات الإنفاق.
ويوضح أن زيادة الأجور لا تتناسب مع جنون الأسعار، وينبغي للحكومة أن تجد حلولا في أقرب وقت، حيث لا يخفى على أحد ازدياد أعداد المشردين في البلاد.
ويحذر من أنه مع زيادة فواتير الطاقة المنزلية بما يصل إلى 700 جنيه إسترليني في متوسط، وزيادة أخرى مماثلة متوقعة في الخريف، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية، فمن الطبيعي أن يسوء الوضع خلال الأشهر القليلة المقبلة بالنسبة لمعظم الأسر.
وبحسب تقرير لوكالة بلومبيرغ الأميركية في 13 إبريل/ نيسان، من المتوقع أن يضر الضغط على الدخل بالنمو الاقتصادي لبقية العام. ويرجّح أن تعاني الأسر بشكل أكبر، حيث تهدد الزيادات الضريبية الأخيرة وزيادة فاتورة الطاقة بتوجيه أكبر ضربة لمستويات المعيشة المسجلة في المملكة المتحدة.
في هذا الشأن، قالت فرانسيس أوجرادي، الأمينة العامة لمؤتمر نقابات العمال: "لا يمكننا الاستمرار على هذا المنوال.. يجب على وزير الخزانة (ريتشي سوناك) أن يعود إلى البرلمان بميزانية طارئة لمساعدة الناس خلال هذه الأزمة"، مؤكدة أن ارتفاع التضخم إلى أعلى مستوى في أربعة عقود يزيد الضغط على الحكومة من أجل بذل المزيد من الجهد لمساعدة المستهلكين الذين يعانون من ضغوط شديدة.
بدورها، قالت يوجينيا ميجليوري، مستشارة السياسة الرئيسية في اتحاد الصناعة البريطانية، إنّ اقتصاد المملكة المتحدة يستمر في خلق فرص عمل، لكن الشركات لا تزال تكافح من أجل التوظيف وتفشل في دفع أجور تواكب التضخم.
فجوة الأجور بين الجنسين
حديثاً، وجد استطلاع أجرته يوغوف (شركة دولية على الإنترنت مختصة بأبحاث الأسواق ومقرها المملكة المتحدة)، أنه من بين 40% من الأشخاص الذين طلبوا زيادة في الأجور، نجح أكثر من الربع بقليل.
ومع ذلك، نجحت واحدة فقط من كل خمس نساء في الحصول على زيادة في الراتب مقارنة بأقل من ثلث الرجال، ويعدّ هذا عاملاً واحداً من العوامل التي تسهم في فجوة الأجور بين الجنسين.
في حين قال 46% من الرجال إنهم طلبوا زيادة في الأجور، طالبت 33% فقط من النساء بالأمر ذاته. وقال 31% من الرجال إنهم حصلوا على زيادة في الأجور، مقارنة بـ21% فقط من النساء.
تعلّق جاستينا (20 عاماً) على هذه الفجوة في الأجور بين الجنسين، وتقول لـ"العربي الجديد" إنّها تحزن عندما ترى "أننا لا نزال نتعامل مع النساء في هذا الزمن كمواطنات من الدرجة الثانية".
وتتابع: "لم نعد نعيش فترة الخمسينيات من القرن الماضي، والعديد من النساء هن العائل الوحيد في الأسرة مع انتشار الأمهات العازبات، ومع ذلك، لا يزال بعض أرباب العمل يعتقدون أنه يمكنهم دفع رواتب أقل للمرأة. نحن نعيش في عالم مليء بالمعايير المزدوجة".
الأزمة المعيشية تضرب الأكثر فقراً
في الأثناء، قالت مؤسسة خيرية بريطانية لمكافحة الفقر إن الحكومة لا تحمي أفقر الناس في خضم أزمة تكلفة المعيشة، مع استحقاقات خارج العمل عند مستويات منخفضة تاريخيا.
ويعاني حوالي واحد من كل ستة أشخاص في المملكة المتحدة من دخل منخفض نسبياً قبل أن ترتفع تكاليف الإسكان، إلى حوالي واحد من كل خمسة بمجرد حساب تكاليف السكن.
ستؤثر التكاليف المتزايدة بشكل غير متناسب على صحة أفقر الناس في المجتمع، ما سيزيد من التفاوتات الواسعة في المملكة المتحدة. وكشفت بيانات من مكتب الإحصاءات الوطنية، نُشرت في أوائل إبريل/نيسان، أن الوفيات التي يمكن تجنبها شكلت 40% من إجمالي وفيات الرجال في المناطق الأكثر حرماناً في إنكلترا في عام 2020، مقارنة بـ18% في المناطق الأقل حرماناً.
تتمثل عواقب سياسات الحكومة وقرارات وزير الخزانة سوناك في احتمال تعرّض 1.3 مليون شخص آخر، بما في ذلك 500 ألف طفل، إلى الفقر المدقع خلال العام المقبل.
يتزايد الضغط على الحكومة لبذل المزيد لمساعدة الناس، ويواجه سوناك انتقادات من الاقتصاديين والجمعيات الخيرية على حد سواء لتقديمه حزمة مساعدات تجاهلت مساعدة أفقر الناس في البلاد. بينما من المقرر أن يرفع بنك إنكلترا المركزي أسعار الفائدة للمرة الرابعة في مايو/أيار المقبل، للمساعدة في احتواء ضغوط الأسعار طويلة الأجل.