تواصل العملة اللبنانية مسار الانهيار المتسارع أمام الدولار الأميركي، مسجلة أرقاماً غير مسبوقة في تاريخ البلاد، تخطّت عتبة الـ56 ألف ليرة، أمس الأربعاء، ما يؤثر بالدرجة الأولى على أسعار السلع الأساسية، يتقدّمها المحروقات، والمواد الغذائية غير مضبوطة الأسعار والرقابة.
كذلك، ينعكس الانهيار النقدي بغلاء شامل يطاول مختلف الخدمات، أخطرها الصحية، والاستشفائية، التي أدت فواتيرها الباهظة إلى تراجع نسبة إشغال المستشفيات بأكثر من 50 في المائة، وانخفاض طلب المرضى على الأدوية التي وإن وجدت في الصيدليات لا قدرة للمواطن على شرائها، علماً أن غالبية المستشفيات باتت أيضاً تطلب من المريض شراء دوائه على نفقته الخاصة.
وعلى وقع الضغوط المستمرة من قبل أصحاب محطات الوقود ونقابة موزعي قوارير الغاز بالجملة والمفرق ومستلزماتها في لبنان، واللجوء إلى الإقفال في كلّ مرة تصدر وزارة الطاقة والمياه اللبنانية تسعيرة لا تتماشى مع ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق السوداء.
وسجلت أسعار المحروقات أمس، ارتفاعاً كبيراً، تخطى فيها سعر البنزين والمازوت عتبة المليون ليرة، في حين لامس سعر قارورة الغاز الـ700 ألف ليرة، في ظل إشارة المعنيين إلى أن لا سقف للارتفاع في ظل تحليق سعر صرف الدولار.
وفي الإطار، حذر رئيس نقابة مستوردي المواد الغذائية هاني بحصلي في بيانٍ من أن الأمن الغذائي للبنانيين بات على وشك الاهتزاز، لعدم تمكن شريحة واسعة منهم من الحصول على كل احتياجاتها من السلع والمنتجات الغذائية بسبب ارتفاع الأسعار جراء ارتفاع سعر الدولار.
وأشار بحصلي إلى أن انعكاسات ارتفاع سعر الصرف سلبية على معيشة المواطنين بالدرجة الأولى وعلى المؤسسات والأسواق، لافتاً، إلى أنه إذا كانت الدراسة الأخيرة التي أعدتها الأمم المتحدة قد أشارت إلى وجود 1.5 مليون لبناني يواجهون خطر فقدان الغذاء، فإن هذا الرقم مرشح للازدياد بشكل مطرد، مع ما نراه من انهيار سريع للعملة الوطنية.
الليرة ضحية الصراع السياسي
لا يشكل مشهد ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق السوداء "سابقة" في لبنان في ظل التسجيل المستمرّ للأرقام القياسية، بيد أن المسار التصاعدي السريع للدولار في الأيام القليلة الماضية، بدأ يخلق بلبلة كبيرة في الأسواق، ويحرك وإن بشكل خجول الشارع اللبناني، بتحركات متفرقة، في وقتٍ، يربط خبراء في الاقتصاد والمال، السيناريو الحاصل، بالصراع السياسي القائم في البلد، واعتصام بعض النواب في البرلمان للدفع باتجاه عقد البرلمان جلسات متتالية لانتخاب رئيس جديد للبلاد في ظلّ الشغور في سدة الرئاسة الأولى منذ 31 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
كذلك يتوقع خبراء أن يستمر انهيار الليرة على وقع الحدث الأبرز، الذي ضجّت به الساحة المحلية، الاثنين الماضي، ويكمن بعودة المحقق العدلي بانفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار إلى التحقيق من تلقاء نفسه بناءً على دراسة قانونية استند إليه، وادعائه على 8 من أبرز الشخصيات السياسية والأمنية والعسكرية والقضائية في البلاد، وتحديد جلسات لاستجوابهم، بينما قرّر أيضاً الموافقة على طلبات إخلاء سبيل 5 موقوفين في القضية، في تطوّر ينتظر ردود فعله السياسية، وانعكاساته الاقتصادية.
يقول المستشار في التنمية ومكافحة الفقر، أديب نعمة، لـ"العربي الجديد"، إن "التقلبات اليومية لسعر صرف الدولار، وارتفاعه الكبير يرتبط أولاً بالمضاربات بالعملة، والصراع السياسي القائم إلى جانب التوتر الحالي بعد خطوة القاضي البيطار، وقبلها اعتصام بعض النواب (من قوى التغيير)، في البرلمان، وعدم الحديث جدياً عن انتخاب رئيس، في ظل تعليق الجلسات البرلمانية". ويشير إلى أن "السلطة مهما كانت محدودة، لا تبذل أي جهد في محاولة الخروج من الأزمة، ما يجعل مسار الانهيار مستمرا وطبيعيا وإلى تعمّق أكثر، الأمر الذي يعني تدهورا إضافيا للعملة الوطنية التي ستفقد أكثر من 96% من قيمتها، وتضخم في الأسعار، وغلاء معيشي، وانحلال مؤسسات الدولة، بينما حال الناس يزداد صعوبة، مع لهيب الأسعار، وفي ظلّ خدمات شبه معدومة، من كهرباء ومياه ومواصلات عامة، وصحة وطبابة".
ويلفت نعمة إلى أن "ما يمنع الانهيار الكلي بمستوى معيشة الناس، هو تحويلات المغتربين المالية بالدولار الأميركي، وبعض المساعدات التي لها طابع إنساني وإغاثي، التي تتوفر من خلال الجمعيات، إلى جانب مدخرات محدودة، علماً أنها أصبحت تعاني من الاستنزاف، بيد أنه بالوتيرة التي نحن عليها، فإن هذه العوامل لن يكون لها أي نتيجة، لأن الانفجار الاجتماعي بات قريباً، وسيطاول المسؤولين في السلطة، الذين هم بمثابة عصابة خارجة عن القانون، من هنا فإن الانفجار آت لا محالة، والناس بدأت تستشعر ذلك في الأيام الماضية لأن الازمة الاقتصادية يجري تركيبها راهناً مع أزمة سياسية".
تبعاً لذلك، يلفت نعمة إلى أن "المواجهة اليوم يجب أن تكون سياسية شعبية قبل تلك القضائية لاختراق ملف انفجار مرفأ بيروت باعتباره مدخلاً لحلّ الأزمة المالية والاقتصادية"، مشيراً إلى أن "عودة التحقيقات بانفجار المرفأ ورد الفعل السياسي قد يكون لها الدور الحاسم أكثر باحتمال انفجار سياسي اجتماعي غاضب من قبل الشعب اللبناني ضد السلطة والذي ممكن أن تستخدمه الأخيرة لخلق توترات متنقلة، وهذا حتماً سيؤثر على مسار سعر صرف الدولار ارتفاعاً".
طيارة من دون طيار
من جهته، يقول مدير مركز المشرق للشؤون الاستراتيجية، سامي نادر، لـ"العربي الجديد"، إن هناك عنصرين أساسيين في انهيار قيمة الليرة اللبنانية، الأول يتمثل بغياب الإصلاحات وأدنى الخطوات اللازمة للخروج من الأزمة الاقتصادية، في ظل وجود اقتصاد بلا نمو، لا بل إلى تراجع.
ويشبّه نادر الوضع الراهن، بطيارة من دون طيار، آيلة إلى السقوط، لا أحد يرضى بقيادتها، أو إجراء أي إصلاح فيها، مشيراً إلى أن "كل المؤشرات الاقتصادية اليوم هي باللون الأحمر، في ظل تقلص النمو وتراجع الناتج المحلي من قرابة 54 مليون دولار إلى 20 مليار دولار، وارتفاع معدل البطالة ثلاث مرّات، إلى جانب العجز في ميزان المدفوعات، وذوبان احتياطي مصرف لبنان المركزي، وغيرها من المعايير التي تدخل الاقتصاد اللبناني في دائرة الخطر، عدا عن عدم قيام أي إجراء إصلاحي للقطاع المصرفي، وأموال المودعين ما تزال عالقة في البنوك".
ويلفت نادر إلى أن ما يزيد الطين بلة، سيّما في الفترة الأخيرة، هو إصدار سلسلة من القرارات والتعاميم التي تشجّع على المضاربة، وتدخل إبطالاً جديداً إلى الاقتصاد الريعي، من بوابة منصة مصرف لبنان "صيرفة"، عبر عمليات الشراء والبيع. ويشير نادر إلى أن استمرار الانهيار متوقع، ولا سقف لارتفاع سعر صرف الدولار، ونحن أيضاً على مشارف دخول سعر الصرف الجديد أي 15 ألف ليرة بدلاً من 1507 ليرات، حيز التنفيذ مطلع شهر فبراير/شباط المقبل، بحيث إن مصرف لبنان سيؤمن الأموال عبر طباعة العملة، الأمر الذي سيزيد من الانهيار، باعتبار أن قيمة الليرة ترتبط بقيمة الناتج المحلي وقدرة الاقتصاد على التصدير.
ويتابع: طالما الناتج المحلي إلى تراجع، وقدرتنا على التصدير واستبدال الاستيراد ضئيلة، فإن الليرة إلى مزيدٍ من المعاناة، خصوصاً أن السلطة غير موجودة، وغير قادرة على وضع رؤية اقتصادية وتنفيذها في المدى المنظور، وهو ما لم تفعله أصلاً منذ فترة طويلة.
أسباب متقاطعة لقفزات الدولار
"هناك عدة أسباب متقاطعة لانهيار الليرة مقابل الدولار، الأول أن استمرار الأزمة يعني استمرار غياب الثقة بالعملة اللبنانية، وبالتالي فإن أي شخص بحوزته الليرة سيستعملها مباشرة للاستهلاك أو يطلب الدولار للادخار، وهذا ما يحكم كل عوامل العرض والطلب منذ عام 2019 لحدّ اليوم، حسب الاقتصادي اللبناني علي نور الدين لـ"العربي الجديد".
من ناحية ثانية، يضيف نور الدين، أن "هناك كتلة خسائر بالنظام المالي، إلى جانب تعثر الدولة وتخلفها عن سداد ديونها، والمشكلتان يتم الاعتماد على السياسة النقدية لشراء الوقت فيهما، بمعنى أن الودائع بالدولار الأميركي تدفع بالليرة، وهنا تكمن السياسة النقدية بخلق العملة المحلية للتسديد، في حين تسدد الدولة سنداتها بالليرة من خلال مصرف لبنان الذي يقرضها عبر طباعة العملة، وبالتالي يأتي تمويله من خلال خلق النقد".
ويشير نور الدين إلى أننا نعيش دوامة تعدد أسعار الصرف، في ظل غياب أي سياسة واضحة لتعويم وتوحيد سعر الصرف، في حين أن هناك علامات استفهام كبيرة حول إجراءات مصرف لبنان، سيما المرتبطة بمنصة صيرفة، خصوصاً لناحية الآليات التي تحكم عملها، عدا عن الاستفهامات التي تطاول تدخلات حاكم البنك المركزي رياض سلامة والجهات التي تصب في مصلحتها. ويتابع: رأينا أخيراً العقوبات الأميركية التي طاولت الخبير المالي حسن مقلد، ونجليه، وشركته "سيتكس" للصيرفة (بتهمة تمويل نشاط حزب الله المالي)، وقد حاز ترخيصا من مصرف لبنان لتحويل الأموال داخل لبنان وخارجه.
تبعاً لذلك، يقول نور الدين إن إجراءات المصرف المركزي للتعامل مع الأزمة النقدية لا تدعو للاطمئنان، ولا توحي بالثقة للسوق، عدا عن أنه من غير الأكيد أنها تعالج أصل المشكلة. في المقابل، يرى أن حل أزمة القطاع المصرفي لا يرتبط فقط بمصرف لبنان، إذ إن هناك تشريعات متصلة بالقطاع المالي يفترض إقرارها في البرلمان، وتطبيقها من جانب البنك المركزي، كما على حاكم مصرف لبنان أن يعتمد مساراً يعوّل عليه لتوحيد وتعويم سعر الصرف بشكل مدروس ومضبوط، على أن يتدخل في السوق من خلال آلية شفافة تحت سيطرته، تؤثر على سعر الصرف بطريقة واضحة، وهذا بعيدٌ حتى الآن.
ووفقاً لكل ما ذكره، يعتبر نور الدين أن ما من مؤشر يوحي بالخروج من الدوامة، ومسار الانهيار مستمرّ، ولا سقف لارتفاع سعر صرف الدولار، الذي كما وصل إلى 56 و57 ألف ليرة ممكن أن يتخطى المائة والمائتي ألف ليرة.