ربما لا يذكر الكثيرون الفرنسي دومينيك شتراوس الرئيس الأسبق لصندوق النقد الدولي خلال الفترة 2007-2011، الذي استقال مضطراً من منصبه في مايو عام 2011 بعد اتهامه بالتحرش بعاملة فندق وبعدة اتهامات أخرى مشابهة، التي ثبت لاحقاً عدم صحتها وتبرئته منها جميعاً، لكن ما يجب ألا ينساه أحد أنه كان تقريباً أول مسؤول على هذا المستوى الرفيع يدعو لإصلاح النظام النقدي العالمي قبل ثلاثة أشهر فقط من واقعة استقالته الاضطرارية، حيث دعا لزيادة دور حقوق السحب الخاصة المكوّنة من سلة العملات الكبرى في العالم، وضمنها -تصريحاً لا تلميحاً- زيادة دور اليوان الصيني في السلة المذكورة؛ بما يضمن مزيداً من استقرار الاقتصاد العالمي والتنسيق بين مكوّناته المختلفة؛ بما يفترض التوازن بينها بالضرورة، بما يتضمّنه كل ذلك منطقياً من تأكيد للأثر السلبي للهيمنة النقدية المُطلقة للدولار، ومن ضرورة تقليص دوره النسبي.
وبغض النظر عن مدى ارتباط ما يبدو كمؤامرة واضحة على الرجل بهذا السبب تحديداً أو بغيره (لنلاحظ أنه لم يُعِد أي مسؤول لاحق للصندوق الحديث بهذا الوضوح والمباشرة عن مسألة بهذه الأهمية للاقتصاد العالمي بأسره وتدخل في صلب اختصاصات الصندوق)، فالمؤكد أن الولايات المتحدة تقاتل حقاً ضد أي تهديد للهيمنة النقدية لدولارها على الاقتصاد العالمي، حتى أن البعض قد أشار مراراً وتكراراً إلى أن اتجاه الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين لسياسة البترويورو بديلاً عن البترودولار كان أهم أسباب قرار الولايات المتحدة بغزو العراق، الذي كان كسيحاً عاجزاً عن أي تهديد سياسي أو عسكري حقيقي بعد حصار لثلاثة عشر عاماً منذ حرب عاصفة الصحراء.
ولا شك أن نزعة كهذه للقتال في سبيل استمرار هيمنة ما، إنما تدل ليس فقط على المكاسب الهائلة من تلك الهيمنة، بل تدل كذلك على مخاوف متزايدة من اهتزازها وشعور حقيقي ببوادر هشاشتها وتراجع مشروعيتها على الأقل، واليوم بعد 20 عاماً من غزو العراق، لا يمكننا تجاهل الحديث المتزايد مؤخراً عن نهاية هيمنة الدولار، حتى خارج الدوائر التقليدية المعادية للولايات المتحدة، الداعية لإنهاء هيمنة الدولار لأسباب إيديولوجية أو قومية، فتزايد الحديث بحد ذاته لا يخلو من الدلالة عن ظهور بوادر ضعفها بوضوح، فضلاً عن تزايد الشكوك بشأن مشروعية تلك الهيمنة وتعاظم الرغبة في إنهائها.
وبدايةً لابد من تدقيق السؤال، ماذا نعني بنهاية هيمنة الدولار؟ لأن كثيراً من الجدالات بشأن هذه المسألة تخلط بين أسئلة مختلفة في الحقيقة انطلاقاً من مطاطية السؤال، فالبعض يعرّفها بواقعية باعتبارها مجرد تراجع الدولار عن دوره كعملة السيولة الدولية الأولى الوحيدة (بما يتوافق مع موقف شتراوس سالف الذكر)، بينما يتساءل البعض الآخر عن مدى إمكانية وجود بديل حقيقي يقوم بنفس مهام الدولار بتصوّر ستاتيكي محافظ عن عالم المستقبل (لا يرى الانعكاسات الحتمية للتغيّرات في الاقتصاد العيني على بنيته المالية)، فيما يتطرف بعضّ ثالث بتصوّراته إلى أحلام طفولية ضارة بانهيار الدولار نفسه انطلاقاً من عداء أعمى للولايات المتحدة (فلا يفرّق بين نهاية هيمنة الدولار ونهايته هو نفسه).
والواقع أن لدى كل فريق من الثلاثة أسبابه الموضوعية لاختلاف توقّعاته بشأن مستقبل الدولار، والأفق الزمني المختلف لحساباته، كذا أولوياته التي ينصب عليها غالب اهتمامه.
فالفريق الأول يرى في الواقع المباشر بوادر الضعف الواضحة في الاقتصاد الأميركي وتراجع مصداقية الولايات المتحدة حتى بين حلفائها، لكنه يدرك مدى صعوبة وبطء تحوّل بضخامة تغيير عملة السيولة الدولية، خصوصاً الدولار الذي اكتسب مكانته في سياق عولمة غير مسبوقة تاريخياً للاقتصاد العالمي بدرجة ارتبط معها تقريبًا مصير الاثنين ببعضهما البعض، الدولار والعولمة، بشكل يصعب فصمه في المدى المنظور دونما أضرار بالغة بالجميع، بما في ذلك خصوم الولايات المتحدة أنفسهم، وهو قول يحمل قدراً معتبراً من الوجاهة؛ بإدراكه للصعوبات المحيطة بتحوّل معقد كهذا، لا يدفع للتعجيل به سوى إساءة استخدام الولايات المتحدة لهيمنتها النقدية.
يكاد الفريق الثاني يتفق مع الأول كنتيجة عملية، وإن كان بتصوّر ستاتيكي أكثر محافظةً -تحليلياً وقيمياً- يرى أنه لا رجعة عن العولمة واستمرار اتساع التجارة الدولية؛ فلا يرى -ولا يقبل- إمكانية مرور العالم بتحوّلات في الأوزان النسبية للاقتصادات القومية وفي نطاق وهيكل التجارة العالمية، وبمراحل ركودية تعيد ترتيب أوضاعه وتوازناته؛ بما ينعكس بالضرورة على بنيته المؤسسية المالية والنقدية، معتقداً على أساس ذلك، وفي ظل الصعوبة الحقيقية لإيجاد بديل فوري من العملات القائمة، باستحالة التحوّل عن الدولار، حتى ولو بنظام أكثر حياداً، متبنّياً على أساس ذلك أقصر المواقف نظراً؛ بوهم إمكانية الحفاظ على مرونة الاقتصاد العالمي بمجرد استمرار المؤسسات القائمة، حتى ولو تغيّرت معطياته الحقيقية وتفاقمت تناقضاته القومية، وحتى لو أظهرت المؤشرات بوادر ركود كبير منتظر، وتراجع معتبر في التجارة الدولية طوال العقد الأخير، ناهيك عن تراجع الوزن النسبي للاقتصاد الأميركي في الاقتصاد العالمي عما كان عليه وقت إقرار الدولار عملةً للسيولة الدولية.
أما الفريق الثالث فيقصر نظره على التناقضات طويلة الأجل الكامنة في صلب وجود العملة الأميركية، ليس فقط من زاوية التناقض على صعيد تعارض المصالح بين اتباع الولايات المتحدة سياسات نقدية وطنية الأفق وكون عملتها عملة السيولة الدولية التي تؤثر على مُجمل الاقتصاد العالمي؛ بما يثيره ذلك من صراعات متزايدة وانفضاض تدريجي عن نظام كهذا يسمح لدولة واحدة بالإدارة النهائية للسياسات النقدية العالمية بما فيها مصلحتها الخاصة، بل كذلك، وكذروة هذا التناقض، ما تثيره عمليات التسيير الكمّي والمديونية الأميركية المُتصاعدة من مخاوف وتناقضات؛ بما تتضمّنه من ضعف متزايد في القوة الحقيقية للدولار كمخزن قيمة، وما تسبّبه من تفارق بين قيمته الحقيقية والاسمية كوسيط تبادل؛ بما يتضمّنه ذلك من خسائر لغير الأميركيين بالخصوص، وتدفّق للقيم الحقيقية من دول العالم إلى الولايات المتحدة كريع إمبريالي.
والواقع أن لهذا الجدل والخلاف حول الموقف جذوره في الواقع، مُتمثلاً في حقيقة انتقالية الوضع وتعقيده بشكل يحتمل كافة التأويلات المذكورة، ففعلاً يواجه استمرار الدولار كعملة السيولة الدولية تحديات حاسمة على المدى الطويل تتجلّى آثارها في اتجاهات حتمية لتراجعه عن مكانته المركزية، لكنه في ذات الوقت لا يزال يحظى بنقاط قوة لا جدل فيها تطيل من عمر هيمنته، ناهيك عن غياب أي بديل كاف في الأجل المنظور؛ بما يبطئ من فاعلية هذه التحديات والاتجاهات لأجل لا يمكن تسميته في الوقت الراهن.