بعد احتدام أزمة غلاء رغيف الخبز الحر وارتفاع سعره بنسبة 50 بالمئة ليصل إلى جنيه ونصف للرغيف، أصدرت الحكومة المصرية قراراً غير مسبوق يحدد وزن وسعر بيع رغيف الخبز الحر، الذي يسميه المصريون باسم العيش السياحي، ويستهلكه أكثر من 32 مليون مواطن ليست لهم حصة في الخبز التمويني المدعم.
نص القرار في مادته الأولى على تحديد سعر بيع الخبز الحر بسعر 50 قرشاً للرغيف زنة 45 غراماً، و75 قرشاً للرغيف زنة 65 غراماً، وجنيه واحد للرغيف زنة 90 غراماً، و11.5 جنيهاً لكيلو الخبز المعبأ.
ونصت المادة الثانية من القرار على أن يعاقب كل من يخالف حكم المادة الأولى من هذا القرار بغرامة لا تقل عن 100 ألف جنيه، ولا تجاوز 5 ملايين جنيه، طبقاً لقانون حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية.
هل يحل القرار الأزمة ويتراجع سعر الخبز إلى ما كان عليه قبل الأزمة، أم أن القاعدة التاريخية التي يتندر بها المصريون وتقول إن الأسعار تزيد ولا تنخفض، ستصدق هذه المرة؟
والسؤال هنا، هل يحل القرار الأزمة ويتراجع سعر الخبز مرة أخرى إلى ما كان عليه قبل الأزمة، أم أن القاعدة التاريخية التي يتندر بها المصريون وتقول إن الأسعار تزيد ولا تنخفض مرة أخرى، ستصدق هذه المرة أيضا، ويذهب قرار رئيس الوزراء أدراج الرياح، كما ذهبت وعود رأس الدولة بعدم زيادة الأسعار مهما كانت الأسباب؟!
وللإجابة عن السؤال والتنبؤ بنجاح القرار أو فشله في ضبط أسعار الخبز، يجب أخذ مجموعة من العوامل المرتبطة بالأزمة في الاعتبار. أهم هذه العوامل أن الخبز السياحي تجرى صناعته من القمح الذي تستورده الشركات المملوكة للقطاع الخاص.
وفي العام الماضي، استوردت هذه الشركات 8 ملايين طن، ما يمثل 60 بالمئة من واردات مصر من القمح الأجنبي، بسعر أقل من 300 دولار للطن. وكان سعر الدولار 15.7 جنيهاً.
ولذلك، أصدرت الحكومة قرار تسعير الخبز السياحي بعد تحديد سعر طن الدقيق الذي يصنع منه الخبز بواقع 8600 جنيه للطن. لكن الواقع أن أسعار القمح الأجنبي زادت في السوق الدولية بعد الحرب على أوكرانيا لأكثر من 480 دولاراً للطن. وكذلك انخفضت قيمة الجنيه إلى 18.5 جنيهاً للدولار. ما يعني أن سعر الدقيق سوف يصل إلى 12 ألف جنيه للطن بعد احتساب تكلفة الطحن.
عندها، سيكون أصحاب المخابز أمام أربعة خيارات، إما الاستمرار في الإنتاج والبيع بالسعر القديم وتحقيق خسائر كما ادعى عامل المخبز أمام السيسي، وهذا مستحيل. أو الاستمرار في الإنتاج وزيادة الأسعار وتحمل الغرامات التي ستفرضها الحكومة وفق القرار الجديد، وهذا مستحيل أيضا، أو الاستمرار في الإنتاج وزيادة الأسعار وتتساهل الحكومة بغض الطرف عن المخالفات كما هو حاصل الآن. أو يضطر أصحاب المخابز لإغلاقها خوفا من تحقيق خسائر أو دفع غرامات.
عجز الرقابة
تعويل الحكومة على تطبيق القرار من خلال الرقابة وتشديد عقوبة المخالفين لن يجبر أصحاب المخابز على الالتزام بالقرار. فقد فشلت الأجهزة الرقابية خلال عقود طويلة في ضبط أسعار السلع والخدمات، ومنها السلع الغذائية وعلى رأسها رغيف العيش الذي يهم كل المصريين وكان على رأس مطالب ثورة يناير.
يوجد في مصر 17 جهة وجهازا للرقابة على السلع والخدمات، من بينها الرقابة التموينية والرقابة التجارية وجهاز حماية المستهلك وجهاز حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية ومباحث التموين.
ولكنها جميعها فشلت في ضبط أسعار وجودة السلع والخدمات، ليس بسبب قصور القوانين والقرارات، ولكن بسبب انخفاض عدد أفراد الأجهزة الرقابية في مقابل ضخامة السوق المصري واتساعه، وكثرة عدد المخالفات في سوق كبير يحكمه قانون العرض والطلب ويعاني من تراجع الإنتاج وشح السلع في الأسواق.
عدد مفتشي التموين المعنيين بتطبيق قرار ضبط أسعار ووزن الخبز انخفض إلى أقل من 6500 مفتش، وفق تصريح وزير التموين في سنة 2018، بسبب خروج المفتشين من الخدمة إلى المعاش ووقف تعيين مفتشين جدد.
مطلوب من هذا العدد القليل الرقابة والتفتيش علي نحو 60 ألف مخبز سياحي وتمويني، ونصف مليون سوق تجاري صغير وكبير، و10 آلاف محطة بنزين، ونحو 14 ألف مستودع بوتاغاز ونحو 30 ألف منفذ بقال تمويني.
هذه المخابز والأسواق والمنافذ موزعة في 27 محافظة على مستوى الجمهورية، من أسوان جنوبا إلى الإسكندرية شمالا، ومن رفح وشرم الشيخ في الشرق إلى السلوم وسيوة في الغرب. والمحافظات تضم 234 مدينة، ونحو 4800 قرية كبيرة، و26 ألف كفر ().
وإذا أخذنا في الاعتبار أن متوسط عمر مفتشي التموين يزيد عن 50 عاما، وفيهم المريض والعاجز، ويؤدون عملهم راجلين لا يتحركون بسيارات حكومية، ورواتبهم لا تكفي تجديد أحذيتهم، أيقنت أن قرار رئيس الوزراء لن يخرج من مكتبه. وإذا خرج إلى وزارة التموين فلن يجد من يطبقه.
وإذا اجتهد مفتش التموين في الرقابة على المخابز التي توفر الخبز لمئة مليون مواطن في ساعات الصباح المعدودة، فسينفد الخبز غير المطابق للمواصفات قبل أن يصل المفتش إلى المخبز.
ومن الناحية العملية، لا يستطيع عامل المخبز المتخصص في تقسيم العجين، أو ما يسمى بالخراط، أن يضبط يده لإنتاج خبز زنة 45 غراما أو 65 غراما، وعليه أن يعمل بمنتهى السرعة لإنجاز العمل وتلبية حاجة الزبائن، وهل يحمل مفتش التموين ميزان الذهب لتقدير وزن رغيف يزن 45 غراما ويفرق بينه وبين آخر يزن 65 غراماً؟!
ومن الناحية السياسية، يستحيل تطبيق القرار، وستكتشف الحكومة أنها ستعاقب نفسها إذا أقدمت على تنفيذ القرار. وذلك لأن صاحب المخبز المخالف لن يستطيع دفع الغرامة التي تصل إلى 5 ملايين جنيه ولا تقل عن 100 ألف جنيه، وسوف يتوقف عن العمل ويغلق المخبز، ما يعني حرمان ملايين السكان من الخبز، وهو أمر خطير يهدد استقرار المجتمع ويحرض على الثورة. أي أن العقوبة ستقع على المجتمع والنظام، وليس على صاحب المخبز المخالف.
في الأيام الأولى من عملي مستشارا في وزارة التموين، سألت مسؤول الرقابة على المخابز التموينية عن استمرار المخابز في إنتاج الخبز منخفض الوزن ورديء الجودة رغم تحرير المخالفات العديدة.
فأخرج المسؤول قرارا وزاريا من درج مكتبه صدر في السبعينيات من القرن الماضي، ينص على إغلاق المخبز المخالف مدة ستة أشهر وسحب الترخيص وتحويل الحصة إلى أقرب مخبز، والذي يقع على بعد محطة أتوبيس أو أكثر، وربما يكون في حي آخر.
أصحاب المخابز المخالفة يدركون نقطة ضعف الوزارة، وهي أن إغلاق المخابز يمثل خطورة من الناحية السياسية، ويمكن أن يؤدي إلى ثورة شعبية. لذلك، كان وزير التموين الجديد يصدر قرارا ينص على تخفيض مدة إغلاق المخبز المخالف، حتى وصلت في النهاية إلى أسبوعين.
وأطلعني على قرارات أصدرها بالترتيب الدكتور محمد ناجي شتلة في بداية الثمانينيات، ثم الدكتور أحمد جويلي، ثم الدكتور حسن خضر، إلى الوزير الحالي، وهو آخر وزراء حكومة مبارك، والذي ختمها بقرار يمنع إغلاق المخبز إلا بعد ارتكاب 14 مخالفة.
حلول للأزمة
لا تقاس مهارة السياسي باتخاذ القرار، وإنما بالقدرة على تنفيذه. نحن بصدد أزمة خطيرة، وهناك احتمال لاستمرار أسعار القمح في الارتفاع وتراجع الكميات المتاحة للتجارة في السوق الدولية حتى منتصف سنة 2023، ولا توجد فرصة لزراعة القمح المحلي إلا شهر نوفمبر/تشرين الثاني القادم، وليس مستبعدا اندلاع ثورة شعبية، لذا أقترح على الحكومة:
أولا، زيادة المعروض من القمح والدقيق وتوفيره لمطاحن ومخابز العيش السياحي وبالسعر الذي اشترته به قبل الأزمة حتى تستطيع البيع بنفس السعر القديم، لا سيما أن الحكومة قالت إن لديها مخزوناً من القمح يكفي حتى نهاية العام.
ثانيا، إعادة ملايين المصريين الذين تم حذفهم عشوائيا من منظومة الخبز المدعم لتخفيف الطلب على الخبز السياحي وتراجع سعره وتهدئة غضب المصريين.
ثالثا، التوسع في زراعة محصول الأرز الذي يبدأ في شهر إبريل/نيسان القادم، ليكون بديلا لرغيف العيش وللمكرونة، لتصل المساحة إلى 1.8 مليون فدان، وليس 724 ألفاً التي تتمسك بها الحكومة كل سنة. وأن تكف عن محاربة زراعة الأرز بحجة استهلاك مياه الري وهي دعوى غير صحيحة.
نحن بصدد أزمة خطيرة، وهناك احتمال لاستمرار أسعار القمح في الارتفاع وتراجع الكميات المتاحة في الأسواق حتى منتصف 2023، ولا توجد فرصة لزراعة القمح المحلي إلا نوفمبر
رابعا، إطلاق سراح وزير التموين الأسبق الدكتور باسم عودة، الذي استهدف توفير الخبز لكل المصريين، وبناء الصوامع في كل الجمهورية، والاكتفاء الذاتي من الذرة الصفراء في موسم الزراعة الذي يبدأ في شهر مايو/أيار بزيادة المساحة إلى 4 ملايين فدان، وذلك لحل أزمة الأعلاف حتى لا يستخدم الفلاح القمح الرخيص في تغذية المواشي، لأنه ليس من المعقول أن تشتري الحكومة القمح من المزارعين بسعر 5900 جنيه للطن، بينما وصل سعر الأعلاف إلى 7500 جنيه!
خامسا، تطبيق خطة الرئيس الراحل الدكتور محمد مرسي للاكتفاء الذاتي من القمح، حيث زاد الإنتاج المحلي في سنة 2013 بنسبة 30 بالمئة. وكان يمكن أن تتحقق الخطة الكاملة ونكتفي ذاتيا من القمح في سنة 2016.
وليس سرا أن تطبيق الدورة الزراعية ونشر البذور عالية الإنتاج يمكن أن يضاعفا كمية القمح رأسيا قبل زيادة المساحة الأفقية.