تعصف أزمة أسعار الدواجن والبيض المرتفعة في مصر بالأسر المصرية منذ شهور. وبدلاً من تدخل حكومي مسؤول وجاد وسريع لحلّ الأزمة، روجت جهات حكومية وإعلامية مقربة من النظام الحاكم لأغذية بديلة لبروتين الغلابة، بعضها غير علمية، وبعضها غير اقتصادية، والبعض الآخر مدمرة لصناعة الدواجن في مصر.
وهي الصناعة التي تدعم الأمن الغذائي المصري منذ ثمانينيات القرن الماضي، ويعمل بها نحو ثلاثة ملايين عامل يعولون حوالى 13 مليون مواطن، ويبلغ حجم استثماراتها نحو 100 مليار جنيه، وتضم 38 ألف منشأة داجنة، منها المزارع ومصانع الأعلاف والمجازر، ومنافذ بيع منتجات الدواجن، ومستلزمات المزارع، والأدوية البيطرية واللقاحات.
أحد الحلول المثيرة قدمته مؤسسة حكومية مرموقة، هي المعهد القومي للتغذية، في صورة منشور علمي على صفحة المعهد على فيسبوك تشير إلى أرجل الدواجن كبدائل غنية بالبروتين وموفرة للميزانية.
صناعة الدواجن التي تدعم الأمن الغذائي المصري منذ ثمانينيات القرن الماضي، ويعمل بها نحو ثلاثة ملايين عامل يعولون حوالى 13 مليون مواطن،
وجاء في نص المنشور أن "أرجل الدجاج من المصادر الغير مكلفة وتعتبر كمان غنية بالبروتين، غير أنها بتحتوي على سعرات حرارية ولكن بصورة معتدلة، فعند إزالة الجلد توفر رجل الدجاجة 106 سعرات حراري، في حين أن الفخذ بدون جلد الدجاجة يحتوي على 176 سعراً حرارياً! كمان تحتوي أرجل الدجاج على البروتين والفيتامينات والمعادن اللازمة لإصلاح أنسجة الجلد ونمو العضلات، غير إنها غنية بالكولاجين الضروري عشان تجديد خلايا البشرة وتأخير علامات الشيخوخة والحفاظ على صحة الشعر والأظافر".
وللوهلة الأولى، يبدو للمتخصصين وغيرهم أنّ منشور المعهد مسيّس، ولا يمت للنشرات العلمية بصلة، وحافل بالأخطاء اللغوية والمعلومات غير العلمية، ولا يصح أن يتورط أو يورط معهد التغذية بهذه الصورة وهو الجهة المفوضة من وزارة الصحة بمنح التراخيص الصحية لتداول المنتجات الغذائية في مصر، ومراجعة كافة الإعلانات التجارية المروجة للمنتجات الغذائية في وسائل الإعلام المختلفة، وملاحقة الإعلانات المضللة للمستهلك والمحتوية على ادعاءات غير صحيحة أو مبالغ فيها، فضلا عن إجراء بحوث المسح الغذائي وإصدار النشرات العلمية التثقيفية للمواطن المصري في مجال التغذية.
وإذا تجاوزنا عن الأخطاء اللغوية الفادحة في المنشور والصياغة الركيكة، فإنّ تسييس المعهد وتوريطه في أخطاء علمية وأخلاقية لا يجوز لمعهد علمي عريق بثقل المعهد القومي التغذية أن يقع فيها، واستغلاله سياسياً على نحو ينتقص من قامة علمائه ومكانته العلمية بين معاهد التغذية حول العالم منذ إنشاء المعهد في عام 1955 كأحد المعاهد التعليمية التابعة لوزارة الصحة والسكان وبعد اختياره قبل ثلاثة عقود في عام 1992 ليكون مركزا معاونا للمنظمة في مجال بحوث التغذية والتدريب هي سقطة كبيرة للحكومة لإدارة المعهد.
ذلك أن منشور "أرجل الدجاج" هو أقرب إلى الإعلانات التجارية المضللة، والمخالفة لاشتراطات وزارة الصحة، التي يمثلها المعهد، وكذلك لقانون حماية المستهلك من الغش التجاري والتضليل. ويروج لادعاءات لا تستند لأدلة علمية، وغير مدعومة بشهادات صادرة عن مؤسسات حكومية ذات صلة. فهو يخلط بين "أرجل الدجاج" المحتوية على لحم الفخذ أو "الأوراك"، وبين "قدم الدجاج" التي يقصدها، وهي الخالية من اللحم!
منشور "أرجل الدجاج" هو أقرب إلى الإعلانات التجارية المضللة، والمخالفة لاشتراطات وزارة الصحة
وهو يرغب المواطنين في الإقبال على شراء "أرجل الدواجن" لمحتواها المنخفض من السعرات الحرارية، وكأن تناول أجزاء الدجاج الأخرى من الصدور والأوراك المحتوية على سعرات حرارية أعلى غير صحي. وهي مغالطة صحية وتغذوية واقتصادية أيضا.
ذلك أن القيمة الغذائية لأجزاء الدجاج، وخاصة الصدور، يرجع لمحتواها المرتفع من البروتين والسعرات الحرارية، وليس الأرجل أو الأقدام كما يروج المعهد في المنشور. وبالتالي فإن شراء "أقدام الدواجن" كمصدر للبروتين هو قرار غير اقتصادي للمواطن المصري، حتى قبل غلاء سعرها هي الأخرى.
غير الأخطاء اللغوية والعلمية، سجل موقع بي بي سي البريطاني سقطة أخلاقية وفضيحة وقعت فيها إدارة المعهد المسيسة للترويج بالغش والخداع "لأقدام الدجاج" حيث نشرت صورة مفبركة لنجم كرة القدم البرتغالي، كريستيانو رونالدو، وهو يبتسم للكاميرا وأمامه طبق من "أرجل الدجاج".
وقالت "بي بي سي" إنّه اتضح بالبحث عن أصل الصورة أن الطعام في الصورة الأصلية كان شرائح دجاج عادية، وأن المعهد حذف الصورة المفبركة في وقت لاحق بعدما كشف الزيف رواد مواقع التواصل الاجتماعي وتعرض لانتقادات لاذعة.
جاء منشور "أرجل الدجاج" قبل أن ينسى المصريون "الشلولو" الذي قدمه المعهد نفسه على لسان رئيس قسم التثقيف الغذائي بذات المعهد كعلاج لفيروس كورونا في بداية سنة 2020 خلال لقاء تلفزيوني.
وقال بأسلوب يشبه أسلوب المنشور الحالي، إن صنفا غذائيا موروثا من التراث الغذائي المصري القديم عمره خمسة آلاف سنة، "وما زال شغال لحد النهاردة"، وفق وصفه، من أكفأ مدعمات المناعة، ومن أكفأ مضادات الكورونا وغير الكورونا وهو الشلولو.
وعرف "الشلولو" بأنه عبارة عن "ملوخية ناشفة بتتعمل بالمية الساقعة.. مع ثوم عالي.. مع ليمون عالي.. وشوية ملح"!!
أما معالجة الجنرال السيسي لأزمة غلاء الدواجن وارتفاع سعر البيض فكانت متشابهة مع معالجة معهد التغذية في المضمون ومختلفة في التكتيك. فاستخدم سيناريو بخس الأزمة وتسطيحها بدلا من الاعتراف بالأزمة والمواجهة ووضع الحل الحاسم. وهو أسلوب تقليدي تتبعه الأنظمة المتسلطة منذ قرون في إدارة الأزمات.
فقد تم استدعاء صاحب مصنع أعلاف صغير في محافظة سوهاج التي لا تتخصص في إنتاج الدواجن واتهمه بسخرية بالمسؤولية عن غلاء الأعلاف وارتفاع سعر البيض، ليدخل في نوبة ضحك هستيري مفتعل بحجة أن عصافير موجودة داخل مصنع العلف.
ذلك أن أصحاب مصانع الأعلاف هم ضحايا النظام الذي عرقل الإفراج الجمركي عن الأعلاف المكدسة بالموانئ، شأنه مثل أصحاب مزارع الدواجن الذين أعدموا الكتاكيت بسبب غياب الأعلاف.
أصحاب مصانع الأعلاف هم ضحايا النظام الذي عرقل الإفراج الجمركي عن الأعلاف المكدسة بالموانئ
وكان من نتيجة المعالجة البهلوانية للأزمة، أن أسعار الأعلاف والدواجن والبيض زادت جميعا مرة أخرى بنسبة 20% بعد تناول السيسي الأزمة على هذا النحو. وكان الأجدر به مواجهة الأزمة التي تعصف بالمواطن ويتحرك لإنقاذ الصناعة الوطنية فورا بالإفراج الجمركي عن الأعلاف المكدسة في الموانئ، ولكنه لم يفعل وما زالت الأزمة مستمرة منذ شهور.
ومن الحلول القاتلة للأزمة، وبدلاً من حماية الصناعة الوطنية جمركياً كما تفعل حكومات العالم، قام جهاز الخدمة الوطنية التابع للقوات المسلحة باستيراد دواجن مجمدة من الولايات المتحدة ما ضاعف خسائر المربين.
وأرسل رئيس اتحاد مُنتجي الدواجن خطابًا، في 10 أكتوبر إلى رئيس مجلس الوزراء يشكو فيه من إغراق السوق بالدواجن الأميركية والصناعة لم تتجاوز بعد أزمة تضخم أسعار الأعلاف التي قفزت فوق 15 ألف جنيه للطن، وصلت لاحقاً إلى 24 ألفاً، لكن دون جدوى.
ومن الحلول التي ابتكرتها جهات مجهولة وروجت لها الأذرع الإعلامية، حملة مقاطعة الدواجن لمدة شهر. وهي حملة مسمومة، وقد تؤدي إلى تدمير الصناعة بالكامل، نظرا لطول مدة المقاطعة، والتي تدفع الشركات للتخلص من أمهات الدواجن والجدود اللازمة لتفريخ البيض وتوفير الكتاكيت للمربين.
وقد شهدت السوق المصرية حملات مقاطعة متكررة منذ سنة 2014 مع فشل السيسي في وعوده بضبط أسعار السلع الأساسية من اللحوم البلدية والدواجن والأرز والسكر والزيت. فشاهدنا حملة بلاها لحمة، وحملة بلاها فراخ، وحملة خلوها تعفن، وحملة خلوها تصدي الخاصة بالسيارات.
وقد كرس رأس النظام لحل مقاطعة السلع الوطنية، رغم خطورته على الاقتصاد الوطني بسؤاله في بداية 2019 عن ارتفاع الأسعار بقوله، "الحاجات اللي تغلى ما تشتروهاش".
اللافت أن هذه حملات المشبوهة، والتي يروج لها النظام، موجهة جميعا ضد المنتجات الوطنية وضد الفلاحين ومربي اللحوم البلدية والدواجن المحلية.
ومن كثرة حملات المقاطعة تم تكوين "الاتحاد المصري لتنظيم حملات المقاطعة" في سنة 2017. ولم يتم توجيه حملة مقاطعة واحدة ضد اللحوم والدواجن المجمدة التي يقوم الجيش على استيرادها.
كرس رأس النظام المصري لحل مقاطعة السلع الوطنية، رغم خطورته على الاقتصاد الوطني
يدعي رئس النظام أن مصر لا تعيش بعزل عن العالم، أن الحرب في أوكرانيا هي السبب الرئيس لارتفاع أسعار الأعلاف والدواجن والبيض وغيرها من السلع الغذائية في مصر.
لكن في تقديري أن قرار البنك المركزي المصري الصادر قبل الحرب بتاريخ 13 فبراير 2022 والذي قضى بوقف التعامل بمستندات التحصيل في تنفيذ عمليات استيراد الأعلاف والأغذية وغيرها، والعمل بالاعتمادات المستندية فقط بغرض تقليل الاستيراد للحفاظ على احتياطي الدولار، أدى إلى تكدس الأعلاف والسلع في الموانئ بقيمة 15 مليار دولار، وأدى لتلف وفساد الكثير منها بسبب طول فترة التخزين في الموانئ منذ تاريخ صدور القرار حتى قرار إلغائه في نهاية الشهر الماضي.
القرار تسبب في ارتفاع أسعار الأعلاف من 7400 جنيه للطن إلى 16 ألف جنيه، ولم تفلح استغاثة اتحاد منتجي الدواجن برئيس الحكومة للتدخل للإفراج عن الأعلاف المكدسة، حتى وصل سعر العلف إلى 22 ألف جنيه للطن، ما اضطر مربي الدواجن إلى إعدام الكتاكيت على الطرق أمام كاميرات التصوير.
ذلك أن الحكومة منعت البنوك من استلام الدولارات من أيدي المستوردين بحجة أنها دولارات مجهولة المصدر، وامتنعت عن الإفراج الجمركي عن الأعلاف والبضائع وقطع غيار المصانع، ما أدى لتوقف نصف مصانع الأعلاف عن العمل، وفق نائب رئيس الاتحاد العام لمنتجي الدواجن.
أحد أسباب الأزمة هو اعتماد نظام السيسي على استيراد الذرة الصفراء من الخارج، ما أدى لارتفاع سعرها حتى وصل إلى 75% من تكلفة صناعة الدواجن
أحد أسباب الأزمة أيضاً، هو اعتماد نظام الجنرال السيسي على استيراد الذرة الصفراء من الخارج، ما أدى لارتفاع سعرها حتى وصل إلى 75% من تكلفة صناعة الدواجن، وإهدار مبادرة الاكتفاء الذاتي من الذرة، والتي دشنها قبل أسابيع من انقلاب يوليو سنة 2013 وزير التموين الدكتور باسم عودة، بالاتفاق مع اتحاد منتجي الدواجن ونقابة الفلاحين.
ولو قدر لهذه المبادرة أن تستمر ما تكررت أزمة الدواجن والبيض. وليس من نافلة القول التأكيد على أنّ استقرار صناعة الدواجن في مصر مرهون بتطبيق سياسة الاكتفاء الذاتي من الأعلاف وعلى رأسها الذرة الصفراء، وتخلي الحكومة عن سياسة التسعير البخس التي تفرضها على أسعار الذرة المحلية والتي تقل عن نصف سعر المستورد.