بالرغم من تصريحات المسؤولين الروس حول الأداء الإيجابي للاقتصاد، منذ بدء غزو أوكرانيا في 24 فبراير/ شباط الماضي، بل وأنه أفضل مما كان عليه سابقا، إلا أن اقتصاديين ينقلون صورة مخالفة تماماً ويتوقعون مستقبلاً سيئاً في ظل العقوبات الغربية الواسعة ضد موسكو.
ويبدو انسحاب أكثر من 1000 شركة دولية من روسيا أحد محددات ملامح الصعوبات التي سيواجهها الروس على المدى الطويل، بحسب دراسة شارك فيها 19 خبيرا اقتصاديا وأكاديميا متخصصا (أميركيون وبريطانيون وألمان وروس)، مشيرة إلى انعكاس ذلك بشكل سلبي على الشعب والاقتصاد.
طوابير البطالة
من بين المنسحبين من السوق الروسي شركة الأثاث والأدوات المنزلية السويدية إيكيا. ففي أواخر يونيو/ حزيران الماضي أبلغت الشركة موظفيها الـ15 ألفا على مستوى روسيا بأنه بإمكانهم شراء آخر ما تبقى في المتاجر والمخازن بأسعار مخفضة، قبل أن يتحولوا إلى طوابير البطالة. وأظهر أحد أشرطة الفيديو الذي انتشر على نطاق واسع حالة تسابق وتدافع الموظفين لاقتناص فرصة الهيمنة على البضائع بأسعار زهيدة.
وهناك اهتمام أوروبي وغربي بما يجري مع اقتصاد روسيا لقياس مستوى تأثير العقوبات وعزل روسيا، على أمل أن يقتنع الكرملين بأن الحرب ستكون نتائجها في غير مصلحة موسكو.
في دراسة أعدها أكاديميون أغلبهم من جامعة ييل الأميركية، على رأسهم مؤسس ورئيس معهد القيادة التنفيذية وعميد كلية الإدارة في الجامعة جيفري أ.سونينفيلد، لاحظ الباحثون أن بيانات موسكو وأرقامها منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا كانت مزيفة.
واستند الاقتصاديون في ذلك إلى أرقام الحكومة الروسية نفسها، والجمعيات التجارية وإحصاءات نقل البضائع وأرقام الموانئ وأرقام شركاء روسيا التجاريين.
جاءت الدراسة في 118 صفحة تحت عنوان "مقاييس النشاط الاقتصادي الحالي والتوقعات.. تأثير مدمر على روسيا"، وخلص المشاركون إلى "شلل الاقتصاد الروسي بسبب التراجعات والعقوبات التجارية".
كشيء جدير بالملاحظة ويشير إلى مشكلة عميقة، توقف الروس عن نشر البيانات الشهرية المتعلقة بالتجارة الخارجية وإنتاج النفط والغاز والاستثمار الأجنبي. بل حتى الشركات الملزمة قانونا بإصدار بيانات مالية توقفت عن ذلك، في الوقت الذي تستعد فيه شركات تدقيق دولية للخروج من روسيا، وذلك سيضفي المزيد من الغموض على ما يجري.
التأثير السلبي على اقتصاد روسيا، كما تناولته الدراسة، أمكن كشفه في تتبع الفوارق بين الحقائق والدعاية الرسمية من الكرملين. ففي حين اختارت الحكومة الروسية نشر أرقام مختارة ومشجعة وإيجابية، وقعت وسائل إعلام غربية في فخ الدعاية.
ففي الأول من يونيو/ حزيران الماضي ذهبت وكالة بلومبيرغ الأميركية إلى نشر تقرير موسع جعل من اقتصاد روسيا في زمن الحرب وكأنه أفضل حالاً من سنوات السلم. بل إن الوكالة اعتبرت أن قطاع النفط والغاز يتوقع له هذا العام أن يحقق إيرادات تفوق العام الماضي.
ما قدمه الباحثون في مراجعتهم لاقتصاد روسيا شيء مخالف تماماً لضغط الدعاية والأرقام المتفائلة زمن الحرب. فاستناداً إلى الأرقام منذ مارس/ آذار، وبعد أسابيع من غزو أوكرانيا، تتبع الخبراء تراجع عائدات النفط والغاز بأكثر من 50% في مايو/ أيار الماضي.
آثار العقوبات وانسحاب الشركات الدولية
رأى القائمون على الدراسة أن الاقتصاد الروسي الذي كان قبل الحرب يحتل المرتبة 12 عالمياً بدأ الآن يعاني آثار العقوبات وانسحاب الشركات الدولية.
وذهب جيفري سونينفيلد (أحد معدي الدراسة وعميد كلية ييل للإدارة)، في مقال استنتاجي مشترك مع مدير الأبحاث في معهد ييل للقيادة التنفيذية ستيفان تيان، على صفحات مجلة فورين بوليسي الأميركية، إلى كشف المعاناة الاقتصادية الروسية بعيداً عن الماكينة الدعائية، وتحت عنوان مثير: "الاقتصاد الروسي في الواقع.. فضح تسع أساطير حول آثار العقوبات وتراجع الأعمال".
فإلى جانب أن الشركات المنسحبة، وبما فيها التصنيعية والخدمية، احتضنت 5 ملايين موظف، وشكلت نسبة غير قليلة من إجمالي الاقتصاد الروسي، فإن وقف دفع مرتبات هؤلاء وإغلاق الأبواب سيؤديان إلى مزيد من البطالة.
ذلك بالطبع يضاف إلى ما استنتجه معدو الدراسة عن "خرافة الاتجاه شرقا"، والتي عادة ما ترفع من أنظمة سياسية تعاني أوضاعاً مأزومة على مستوى الاقتصاد والسياسة. كذلك فإن تسويق روسيا للتوجه بغازها نحو الشرق، أي إلى الصين والهند وغيرهما في آسيا، نظر إليه الباحثون باعتباره مجرد "تضليل من (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين".
في السياق نفسه، يوضح هؤلاء أن "أقل من 10% من قدرات روسيا من الغاز هي غاز طبيعي مسال، لذا تظل صادراتها من الغاز معتمدة على نظام خطوط الأنابيب الثابتة التي تحمل الغاز".
ينطبق ذلك على الغاز الموجه من غرب روسيا إلى أوروبا، حيث هذه الأنابيب "غير قابلة للتوصيل بشبكة منفصلة من خطوط الأنابيب التي تربط شرق سيبيريا بآسيا، والتي تحتوي فقط على 10% من قدرة شبكة خطوط الأنابيب الأوروبية".
أشار هؤلاء أيضا إلى أن نحو 16 مليار متر مكعب جرى تصديرها إلى الصين خلال العام الماضي، وهي أقصى قدرة توصيل، ومثلت أقل من 10% من 170 مليار متر مكعب أرسلت عبر الخطوط إلى القارة الأوروبية.
ونظرا إلى أن خطوط الإمداد نحو آسيا لن تكون جاهزة قبل سنوات، رغم الاستعجال في استكمالها، فالاقتصاد الروسي الذي يعاني مالياً، حتى في تمويل مد تلك الأنابيب، سيصبح أكثر معاناة، كما رأى الباحثان سونينفيلد وتيان في استخلاص النتائج.
في المجمل، ليس خروج الشركات والبنوك من روسيا وحده ما يؤثر سلبا في اقتصادها. فلا تغيب عن الباحثين ظاهرة نزيف الأدمغة التي بدأت تتوسع مع هجرة أصحاب المؤهلات والكفاءات من البلاد.
هروب رأس المال
وتلاحظ الدراسة أن ما يجري "يفوق ما جرى قبل 3 عقود، حيث تعود الأمور إلى ما قبل وصول الاستثمار الأجنبي، وبدء هروب رأس المال والمواهب وصولاً إلى نحو نصف مليون شخص"، ويعتبر هؤلاء أن "تأثير الدومينو سيبدأ خلال الفترة القادمة".
وما يعنيه كل ذلك بحسب الباحثين "توقف الإنتاج المحلي في روسيا، دون القدرة على تعويض الأعمال والإنتاج والمواهب المفقودة"، آخذين بالاعتبار انسحاب قطاعات صناعية كالسيارات وغيرها من السوق الروسي.
على كل، وبرغم أن العقوبات الغربية تبدو في ماكينة دعاية الكرملين لا تعني شيئا، فقد سجلت صحيفة "كوميرسانت" خلال الأيام الماضية بداية فقدان في أجهزة الكمبيوتر المحمولة المزودة بلوحات مفاتيح روسية.
فسلاسل الإلكترونيات الروسية بدأت عمليا التخلي عن بعض موظفيها، مع "تراجع السلع"، وذلك أيضا مضاف إلى انخفاض مبيعات السيارات بنسبة 75%، حيث في العموم تواجه الصناعة الروسية المتبقية تحديات هائلة لأنها معزولة الآن عن قطع الغيار.
ويوجه الخبراء أنظارهم خلال الأشهر القادمة للقياس الفعلي للتأثر السلبي لمجمل الصناعات الروسية، وليس أقلها عالية التقنية والمواد الغذائية وغيرها من القضايا الهامة في يوميات حياة الروس، وفقا لمعدي الدراسة.