القمح أهم محاصيل الحبوب الغذائية في العالم، وأخطر مكونات الأمن الغذائي العالمي، وإحدى دعائم استقرار الشعوب والأنظمة السياسية، وتعتبره مراكز صنع القرار الأميركي أهم من البترول في تأثيره وفاعليته في الحضارة العالمية الحديثة. وفي مصر، تطلق كلمة العيش بمعنى الحياة على الخبز المصنوع من القمح، حيث يعتمد عليه المصريون في غذائهم كمصدر للبروتين والطاقة. لذا كانت أزمات الخبز سببا في اندلاع ثورات شعبية عديدة في مصر وفي كثير من دول العالم قديما وحديثا.
وبعد حرب روسيا على أوكرانيا في فبراير من العام الماضي، فرضت الدول المصدرة للقمح قيوداً على التصدير، وارتفعت أسعار القمح في السوق الدولية إلى ضعف ما كانت عليه قبل الحرب، ووصل السعر إلى 550 دولاراً للطن، بعد بقائه لسنوات ما دون 250 دولاراً للطن.
ورغم المكانة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للقمح، تنتهج الحكومة المصرية سياسات مثيرة للجدل ولا تحقق الاكتفاء الذاتي من المحصول الاستراتيجي، ولا تزال مصر متربعة على كرسي أكثر الدول استيراداً للقمح في العالم بمعدل 12 مليون طن في السنة.
آخر تلك السياسات إعلان مجلس الوزراء المصري، "حافزاً" إضافياً للفلاحين لتوريد إردب القمح المحلى، وزن 150 كيلوغراماً، لموسم 2023 الذي بدأ في منتصف هذا الشهر ليصبح 1500 جنيه، ما يعادل 8325 جنيهاً للطن، بدلاً من سعر 1000 جنيه، الذى سبقت الموافقة عليه في شهر أغسطس الماضي.
وقال المتحدث باسم المجلس إن القرار جاء بعد توجيه من الرئيس عبد الفتاح السيسي بمراجعة أسعار المحاصيل الاستراتيجية وإعطاء سعر مُحفز يراعي الظروف العالمية، ويشجع الفلاحين على التوسع في زراعة المحاصيل الاستراتيجية، وبخاصة القمح.
بروباغندا إعلامية
بمجرد صدور القرار، ورغم اعتراض الفلاحين، صفق الإعلام المصري كله بلا استثناء للقرار، وقالت صحيفة اليوم السابع في تقرير بعنوان، فرحة كبيرة بعد قرار الرئيس السيسي بزيادة سعر توريد إردب القمح، إن قرار الرئيس هدية أسعدت الفلاحين في ربوع مصر، وإن نقباء فلاحي المحافظات اعتبروه دعماً كبيراً أثلج قلوبهم ويشجع الفلاح على الاهتمام بالمحصول، وإن المزارعين توجهوا بالشكر للرئيس حيث "افتكرنا في ظل هذه الظروف".
وأشاد بالقرار نقيب الزراعيين، الدكتور سيد خليفة، وثمن جهود الرئيس في ملف الأمن الغذائي، وتوجيهه باستلام القمح من المزارعين بسعر مجزٍ، وبخاصة توجيهاته الأخيرة بتقديم حافز إضافي إلى مزارعي القمح، وقال إن الحافز سيشجع المزارعين على زيادة معدلات توريد القمح هذا الموسم عن الموسم السابق.
وقال نقيب الفلاحين، حسين أبو صدام، إن قرار زيادة سعر توريد إردب القمح إلى 1500، تطبيقاً لتوجيهات الرئيس، خبر أسعد كل المزارعين، كذلك فإنه مشجع للفلاحين على زراعة القمح، وزيادة التوريد للحكومة، ويقطع الطريق على المستغلين وتجار السوق السوداء الذين كانوا يشترون القمح بسعر أعلى، من أجل عمل مشكلات بالسوق، واعتبر تلك الزيادة "هدية الرئيس السيسي للمزارعين في عيد الفطر".
فهل السعر المفروض من قبل الحكومة عادل ويراعي التغيرات العالمية وارتفاع سعر القمح وشحه في السوق الدولية بسبب الحرب في أوكرانيا؟ وهل قرار الجنرال السيسي هدية فعلاً ويشجع الفلاحين ويحفزهم على التوسع في زراعة القمح وزيادة معدلات التوريد لوزارة التموين؟!
السعر غير عادل
في تقديري السعر الجديد ليس هدية وغير عادل، ولن يشجع الفلاحين على التوسع في زراعة القمح، ولن يحفزهم على زيادة معدلات التوريد للحكومة لعدة أسباب، أولها أن السعر القديم الذي أعلنته الحكومة في أغسطس الماضي، وهو 1000 جنيه للإردب، كان يعادل 52 دولاراً، حيث كان سعر صرف الدولار يعادل 19.2 جنيهاً، وبعد زيادة السعر إلى 1500 جنيه للإردب، خفضت الحكومة قيمة الجنيه إلى 30.9 جنيهاً للدولار، وبذلك أصبحت قيمة إردب القمح تعادل 48.5 دولاراً، ما يعني أن سعر القمح انخفض بالمقارنة بقيمة الدولار الذي تستورد به الحكومة القمح من الخارج، رغم زيادة السعر بنسبة 50%.
من ناحية أخرى، إن السعر الذي فرضته الحكومة للقمح المصري العام الماضي كان 885 جنيهاً للإردب، ما يعادل 56.7 دولاراً، بسعر الدولار في ذلك التوقيت، وهو 15.6 جنيهاً، وهو أعلى من السعر الجديد مقوماً بالدولار أيضاً.
ويكون السعر هذا الموسم بعد تعويم الجنيه حوالى 1750 جنيهاً للإردب تقريباً، خالياً من أي دعم حكومي. وإذا احتُسِب فارق أسعار الأسمدة والوقود، فإن السعر يجب ألا يقل عن 2000 جنيه للإردب، هذا إذا كانت الحكومة جادة في تحقيق أهدافها المزعومة.
السبب الثاني، أن سعر القمح الذي تستورده الحكومة من روسيا وصل حالياً في السوق المصري إلى 13800 جنيه للطن، ما يعني أن السعر الذي فرضته الحكومة للقمح المحلي يقلّ 3800 جنيه عن سعر القمح الروسي.
ومن المعلوم أن جودة القمح المصري ومحتواه من البروتين أعلى من القمح الروسي. وهذا دليل على صدق من يتهم الحكومة بدعم المزارع الروسي على حساب الفلاح المصري بتفضيلها الاستيراد على الإنتاج المحلي.
قبل أيام، حكى لي أحد الفلاحين في الصعيد أنه في سنة 2013 زرع كل أرضه قمحاً، ثم باعه لوزارة التموين، وبرر ذلك بقوله إن السعر الذي أعلنته حكومة الدكتور محمد مرسي كان محفزاً فعلاً.
لكن بعد 2014، فإن السعر الذي تفرضه الحكومة غير مجزٍ، وكلما توسع في زراعة القمح زادت خسائره، ولذلك قرر أن يكتفي بزراعة مساحة صغيرة من أرضه قمحاً تكفي قوت أولاده فقط، حتى لا يحقق خسارة مالية ولا تطبق عليه قوانين التوريد الإجباري.
لكن المحزن قوله إنه زرع الأرض بأشجار المورينجا، لأن عائدها المالي أعلى من القمح بكثير، رغم انعدام فوائدها الغذائية.
التوقيت خاطئ
التوقيت الذي اختارته الحكومة لإصدار قرار زيادة سعر القمح بزعم تشجيع الفلاحين على التوسع في زراعته وزيادة معدلات التوريد كما تدعي خاطئ تماماً.
ذلك أن موسم زراعة القمح في مصر يبدأ في منتصف شهر نوفمبر من كل عام، وينتهي بنهاية الشهر نفسه، أو في الأسبوع الأول من شهر ديسمبر على أعلى تقدير.
ولكن قرار زراعة القمح يأخذه الفلاحون في شهر مايو وقبل زراعة البرسيم، وهو المحصول المنافس الأول للقمح في مصر بسبب انخفاض تكلفة زراعته وارتفاع عائده المالي في ظل غلاء الأعلاف المستوردة.
وبفرض أن السعر مشجع ومربح للفلاحين للتوسع في مساحة القمح، فإن هذا السعر لا يكون له أي تأثير في زيادة المساحة إلا إذا صدر في شهر مايو أو يونيو فقط على أقصى تقدير.
أما إذا صدر بعد ذلك، كما هو حاصل الآن، فإن تأثيره ينحصر فقط في تشجيع المزارعين على بيع المحصول للحكومة وزيادة معدل التوريد، بشرط أن يكون السعر محفزاً فعلاً، وهو ما لم يتوافر في السعر الجديد.
المضحك المبكي أن أحد أعضاء نقابة الفلاحين قال إن اختيار توقيت تطبيق الأسعار الجديدة للقمح، عمل عبقري من قبل رئيس الجمهورية، وطالب الفلاحين بتوريد القمح للحكومة لدعم الدولة!
أخطاء مكررة
العام الماضي، وبسبب الحرب في أوكرانيا، امتنعت الدول المنتجة عن تصدير القمح. ولمواجهة أزمة شحّ القمح وارتفاع سعره في السوق الدولية، اتبع مجلس الوزراء المصري السياسة المثيرة للجدل أيضاً، فقرر زيادة سعر توريد القمح إلى 885 جنيهاً للإردب.
وبرر المجلس الزيادة، في بيان عبر حسابه الرسمي في موقع فيسبوك، بأنها صدرت تنفيذاً لتوجيهات رئيس الجمهورية بدعم المزارعين وتشجيعهم على زيادة الكميات الموردة من القمح المحلي.
واستكمالاً للسياسات المثيرة للجدل، أصدر وزير التموين في اليوم نفسه قراراً يُجبر الفلاحين على توريد 12 إردباً (الإردب 150 كيلوغراماً)، حدّاً أدنى من محصول القمح عن كل فدان، وقال إن الحكومة تستهدف شراء 6 ملايين طن من القمح من الفلاحين بزيادة قدرها 67% على الكمية التي اشترتها العام الفائت، وهي 3.6 ملايين طن.
ونص القرار على حرمان مَن يمتنع عن تسليم الكمية المحددة صرف الأسمدة المدعومة، ودعم البنك الزراعي، مع تطبيق العقوبات المنصوص عليها في المادة الـ56 من القانون رقم 95 لسنة 1945 الخاص بشؤون التموين، وهي الحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على 5 سنوات وغرامة لا تقل عن 300 جنيه ولا تتجاوز 1000 جنيه، وتُضبط كميات القمح، ويُحكم بمصادرتها، كما تُضبط وسائل النقل أو الجر التي استُعملت في نقله، ويُحكم بمصادرتها.
وتعليقاً على القرار كتبت مقالاً قلت فيه: هل تنجح سياسة التوريد الإجباري في تمكين الحكومة من شراء 6 ملايين طن من القمح المحلي؟! وهل تكفي الزيادة الجديدة في سعر القمح لإقناع الفلاحين ببيع المحصول للحكومة؟! وهل يشجعهم على التوسع في زراعته الموسم المقبل الذي يبدأ في شهر نوفمبر؟! واقترحت أن تزيد الحكومة السعر إلى 1200 جنيه للإردب، وإلا فستفشل في تحقيق الهدف، وقلت بالنص: "ستفشل الحكومة بلا شك في شراء الكمية المستهدفة من القمح المحلي".
وهو ما حدث بالضبط، حيث رفض معظم الفلاحين توريد القمح للحكومة وتناقلوه فيما بينهم بسعر 1200 جنيه للإردب، وهو السعر الذي اقترحته.
وفي نهاية موسم التوريد، أعلن وزير التموين شراء 4 ملايين طن فقط من القمح، رغم التهديد والوعيد. ولم تزد مساحة القمح هذا الموسم على ما كانت عليه العام الماضي.
ولم يكن ذلك تنجيماً، ولكني قلت إن السعر الذي فرضته الحكومة، وهو 5900 جنيه للطن، يقلّ عن سعر النخالة والذرة الصفراء الذي يشتريه الفلاح لتغذية المواشي، وهي مفارقة لا توجد إلا في مصر، حيث يزيد سعر العلف على سعر القمح والخبز أيضاً".
حالياً وصل سعر الذرة الصفراء إلى 19700 جنيه للطن. لذلك، إن انخفاض سعر القمح عن السعر العادل لن يشجع، بل سيمنع المزارعين من توريد القمح لوزارة التموين في ظل ارتفاع سعر الذرة الصفراء، كما حدث العام الماضي، ما قد يضطر الفلاح إلى استخدام القمح كعلف للمواشي، أو يقوم بطحن القمح للحصول على النخالة لاستخدامها كعلف، لأن سعرها في السوق أعلى من سعر القمح. فهل تعي الحكومة الدرس وتعلن سعراً جديداً عادلاً، أم تكرر أخطاءها؟!