... وكأن انهياراً لم يكن، هكذا تم الإعلان عن اتفاق صندوق النقد الدولي والسلطة اللبنانية التي لا تزال أطرافها المسؤولة عن الأزمة على رأس القرار.
إذ بعد مرور أيامٍ معدودة على ضجة "إفلاس الدولة ومصرف لبنان" التي أحدثتها تصريحات نائب رئيس الحكومة اللبنانية سعادة الشامي، أعلن، الخميس، عن توصّل لبنان وصندوق النقد الدولي إلى اتفاق مبدئي على برنامج تصحيح اقتصادي ومالي تحت عنوان "التسهيل الائتماني الممدد"، مدته أربع سنوات مع صرف 3 مليارات دولار من حقوق السحب الخاصة للبنان، شرط تنفيذ برنامج إصلاحي شامل.
وعلى وقع ترحيب الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي وفرنسا وغيرها بالتوصل إلى الاتفاق، ووسط تطورات الحركة الدبلوماسية التي كسرت المقاطعة السعودية الكويتية لبيروت، يخشى اللبنانيون من تعويم "سلطة الانهيار" التي تتحمّل مسؤولية واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في التاريخ، وذلك قبيل شهرٍ فقط من موعد الانتخابات النيابية المنتظر إجراؤها في 15 مايو/ أيار المقبل.
ويعتمد البرنامج المتفق عليه مع صندوق النقد على ست ركائز: توفير بيئة مؤاتية للنشاط الاقتصادي عبر إنجاز الإصلاحات الهيكلية الضرورية لاستعادة النمو وتأمين فرص عمل، إعادة هيكلة القطاع المصرفي، تحسين المالية العامة لتأمين استدامة الدين مع زيادة النفقات على القطاعات الاجتماعية والبنى التحتية، إصلاح القطاع العام ومؤسساته، وخاصة قطاع الكهرباء لتأمين تغذية أفضل، توحيد سعر الصرف لإزالة التشوهات في الاقتصاد، وتحسين الحوكمة ومحاربة الفساد بمساعدة فنية من صندوق النقد الدولي.
لا يستبعد عضو "رابطة المودعين"، الاقتصادي نزار غانم، في حديثه مع "العربي الجديد"، محاولة تعويم الطبقة السياسية نفسها لتمرير فترة الانتخابات النيابية، في مستجدات يمكن توصيفها بـ"إبرة المورفين" للمنظومة، ويوضح أن الاتفاق، المعلن عنه الخميس، هو أساساً غير ملزم، بمعنى أنه اتفاق مبدئي على صعيد الموظفين، وبالتالي يحتاج إلى إقرار الإصلاحات من جانب السلطات اللبنانية ومن ثم الحصول على الدعم.
ويرى غانم أن ما حصل هو محاولة لتعويم الطبقة السياسية وإحداث ضجة إعلامية قبيل الانتخابات للقول إن الحكومة ذاهبة إلى حلٍّ ماليٍّ شامل، ولكن العبرة دائماً تبقى في التنفيذ، خصوصاً بالنظر إلى التجارب اللبنانية السابقة التي بقيت بلا أي ترجمة ملموسة إصلاحياً، من مؤتمر باريس 1، إلى باريس 2 وباريس 3 ومؤتمر سيدر.
ويسأل: "هل سيقوم مجلس النواب بإقرار قانون وقف السرية المصرفية الذي يعني زجّ معظم السياسيين في السجون؟ وهل سيقرّ إصلاحات أساسية بنيوية من شأنها أن تعيد تنظيم الاقتصاد السياسي؟"، ويشرح أن هناك علامات استفهام كبيرة "ورغم حاجتنا للخروج من الانهيار، بيد أنه من دون تغيير سياسي حقيقي من الصعب تخيّل أنه يمكن إقرار إصلاحات من القوى السياسية الحالية، ضمنها ما يتعلق بالسير في التدقيق الجنائي بحسابات مصرف لبنان".
من إيجابيات الاتفاق، يلفت غانم إلى أنه جرى الإقرار بأن هناك خسائر مالية، والإصلاحات المذكورة جيّدة إذا سلكت طريق التنفيذ، منها كسر السرية المصرفية وإعادة هيكلة القطاع المصرفي وشطب جزء كبير من الدين العام الجائر، ولكن في المقابل بقيَت غير واضحة الطريقة التي سيصار فيها إلى حماية المودعين، ولا سيما الصغار منهم والمتوسطين.
ويلفت إلى أن هناك أسئلة عدّة تتمحور حول وضع المساهمين في المصارف، إذ إن قانون النقد والتسليف ينصّ على تحميل أعباء الأزمة للمساهمين وأعضاء الإدارة، ومن ثم تتدرّج صوب كبار المودعين، وتلمس أخيراً الودائع المتوسطة والصغيرة، "من هنا نحذر كرابطة من إنقاذ المساهمين على حساب المودعين، ونطالب بعدم المساس بمدخرات الناس".
من جهته، يقول حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إنه يأمل في تلبية الشروط المسبقة التي يحددها صندوق النقد من أجل الحصول على موافقة المجلس التنفيذي للصندوق على البرنامج، واصفا الاتفاق بأنه "حدث إيجابي للبنان".
ويشرح سلامة في رسالة نصية بعثها إلى وكالة "رويترز"، الجمعة: "الاتفاق مع صندوق النقد الدولي سيساهم في توحيد سعر الصرف". إلا أن هذا التصريح زاد التساؤلات حول جدية السلطات اللبنانية في توفير بيئة ملائمة للإصلاحات، وسط اتهامات محلية ودولية تلاحق سلامة بالفساد، فيما تغيب التوضيحات عن آلية توحيد سعر الصرف.
وكانت جمعية المصارف أعلنت في نشرتها الفصلية مطلع العام الحالي، أن توحيد سعر الصرف يتم وفق طريقتين: الأولى من خلال خطة تدريجية تحرر سعر الصرف على مراحل، والثانية عبر تعويم سعر الصرف مباشرة بحيث يتلاقى السعر العائم مع الموجود في السوق الموازية.
وخرجت تحذيرات من خبراء اقتصاديين من أن السياسات الاقتصادية اللبنانية لا تزال تعوم على الفوضى ولا قيمة فعلية لليرة اللبنانية، والمصارف تمكنت خلال سنتين من تذويب حوالي 14 مليار دولار من أموال المودعين عدا عن التحويلات التي حصلت إبّان الأزمة في أواخر عام 2019، فيما الثلاثة مليارات دولار لن توقف انهياراً صنعته السلطة ذاتها التي تسيطر على القرار اليوم.