وقع سوق العقار في مصر بين حجري رحى شديدي الوطأة، وهما سماسرة رفعوا الأسعار بطريقة هستيرية، وقوانين تعرقل نمو المشروعات العقارية إلا في حدود الأماكن التي يرعاها رأس النظام، ويدفع الناس دفعا نحو الاستثمار بها.
ورغم حالة الفوضى التي تشهدها الأسواق، التي تتعرض لـ"فقاعة" كبيرة، كما وصفها الخبير والاستشاري المعروف ممدوح حمزة، تحتاج إلى حلول تشريعية وقرارات حكومية عاجلة، فقد أقحم المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام نفسه في المشكلة العقارية، بإصداره قرارا "ينظم الإعلانات التي تنشرها وسائل الإعلام، عن الوحدات العقارية والتعامل عليها في العاصمة الإدارية الجديدة".
القرار يمنع نشر إعلانات تتعلق بحجز وحدات عقارية أو أراضٍ بالعاصمة الإدارية، والبدء في تسويقها، إلا بعد الحصول على تصريح كتابي بذلك من شركة العاصمة الإدارية.
وبغض النظر عن نيّات مصدر القرار والتهديدات التي وردت في البيان الذي نشرته الصحف والقنوات، لم نجد في الفترة الماضية أي التزامات من الجهات المعلنة به. فهي تنشر كما في وضعها السابق، وهو أمر يبين إلى أي حد أن المجلس الأعلى للإعلام تدخل في قضية لا يفهم طبيعة مشاكلها، ولا كيفية إدارتها، وتدخل في سوق مرتبك لا تملك الحكومة أي خطة حقيقية لتنظيمه.
المدهش أن مجلس الإعلام فشل في إدارة ملفاته المهنية، على مدار السنوات الماضية، بما عرض المؤسسات الصحافية والإعلامية المنوط بحل مشاكلها، إلى تزايد ديونها ووقف العديد من إصداراتها، وأضاع هيبة الإعلام المصري، بين المؤسسات الإعلامية، شديد الحرفية والانتشار، بما سمح لغيره من الأجهزة السيادية بالتدخل في إدارة ملفاته، بعيدا عنه، فيفاجئ الجمهور بإصدار هذا البيان في صورة قرار وزاري شديد اللهجة.
لم يذكر البيان أي معلومات عن أسباب صدوره، بينما كشفت تصريحات الرئاسة أن هناك تلاعبا في السوق العقاري، خصوصاً في مشروعات تباع في العاصمة الإدارية بطريقة مريبة، وتسيء لسمعة المدينة والمستثمرين الجادين.
لذلك طلبت الرئاسة ألا يتم الإعلان عن أي مشروع في العاصمة الإدارية قبل تنفيذ 30% من برنامجه المتفق عليه مع شركة إدارة العاصمة. وكثر الحديث حول هذا الأمر، مع إعلان الحكومة عن نيتها طرح أسهم شركة العاصمة الإدارية في بورصة الأوراق المالية خلال عامين، على أمل جمع نحو 100 مليار جنيه من السوق تضخ في ميزانية الشركة.
تعدد الحديث عن الإعلانات، من دون ذكر حقيقي للأسباب التي أدت إلى انتشار عدم الثقة في كثير من المشروعات العقارية التي تقيمها شركات حكومية أو خاصة في العاصمة الجديدة وعدد ضئيل من المدن التي تضعها الحكومة على سلم أولوياتها، دون غيرها.
وأصبح السوق يعاني من ظاهرتين متضادتين؛ كثرة في العرض وندرة في الطلب، وارتفاع في الأسعار بصورة مبالغ فيها، مع تدهور الدخول والتعقيدات البنكية.
وعرف السوق العقاري حالة من الركود التضخمي، فالناس لا تبيع ولا تشتري، ولكن الأسعار دوما تتجه لأعلى، ورغم أن الحكومة أطلقت مبادرة التمويل العقاري البالغة قيمتها 100 مليار جينه، ذات الفائدة المنخفضة بنسبة 3% سنويا، وطلبت من البنوك زيادة المخصصات الائتمانية لمشروعات التمويل العقاري لتشجيع الناس على شراء الوحدات السكنية لمحدودي ومتوسطي الدخل، إلا أن السوق ما زال مكانك سِرْ!
وبعيدا عن التعقيدات الرسمية التي تضعها البنوك والشركات للتمويل العقاري، فإن أسعار الوحدات المبالغ في تقديرها، لا تشجع على الشراء. والأمر الأهم دخول السوق في مستنقع الفساد البيعي، مع انتشار ظاهرة اسناد بيع الوحدات السكنية أو الإدارية إلى ما يسمى بالمطور العقاري.
هذه الظاهرة التي بدأت منذ سنوات اعتمدت في البداية على سمعة جيدة لشركات كبرى، تولت بنفسها عمليات البناء، وأسندت بعضها عمليات البيع لإدارات داخلها، سميت في البداية إدارات التسويق، ثم تحولت إلى فروع للشركة الأم باسم "المطور العقاري". وكان هدف الفصل بين الطرفين أن تتفرغ الجهة المنفذة لأعمالها، ويكون التسويق مسؤولا عن التعامل مع الجمهور، خصوصاً أن هذه العلاقة تمتد لسنوات، وبعضها تحول إلى وضع دائم، مع انتشار "الكومباوندات".
المصريون عندما يتعاملون مع العقار، يبحثون أولا عن المالك "المستثمر" سواء كان فردا أو شركة، حيث يهمهم سمعته ومدى التزامه بتنفيذ عقود البيع، واختياره لعملائه، وكيفية إدارته للمنشأة أثناء الانتفاع بهذه الوحدات. ويعتبرون المطور العقاري مجرد سمسار للبيع، إلا أن الأمر أصبح مختلفا خلال السنوات القليلة الماضية.
فالمشتري لم يعد يرى مالكا، بل المطور الذي لا يبني ولا ملكية له ولا استثمار، بل ينحصر دوره في تلاقي المالك والمشتري في بيعة لا يهمه منها سوى عمولته، ثم أصبح المطور يتولى الترويج لهذه المشروعات، بكافة الطرق الفنية المبهرة وتوظيف كبار النجوم والتكنولوجيا التي تجعل من الخيال الحالم واقعا مرئيا لا يعرف أسراره إلا خبير.
ودخل السوق العقاري نخبة من النصابين سواء من بعض الملّاك الذين بمجرد حصولهم على خطاب تخصيص قطعة أرض، يستعينون بمطورين لديهم القدرة على "بيع الهواء" لجمع أكبر قدر من المال، رغم أن المشروع ما زال في خطواته الإجرائية الأولية.
والأغرب أننا رأينا في مشروعات العاصمة الجديدة من باع عدة مراحل في مشروع ضخم يقدر بمليارات الجنيهات (الدولار يساوي 15.70 جنيها) وهو لم يحصل على ترخيص نهائي لمرحلته الأولى، وعندما صدر الترخيص بشكل مغاير لما اتفقت عليه الشركة مع المشترين، كان المالك قد جمع أموالا تمكنه من رد حقوق الرافضين للتغيير، وإعادة بيعها بالأسعار الخرافية الجديدة، فخرج سالما غانما من مأزق خطير.
وتطور الأمر إلى أن لجأ ملاك آخرون للبيع عن طريق أكثر من مطور عقاري، فكانت النتيجة بيع الوحدات لأكثر من شخص. وفي احدى مشروعات الساحل الشمالي باع مطورا فيلات لكبار مسئولين في الدولة، عدة مرات، ورفع السعر مرات، ومن يعترض ينهي عقد البيع ويعرض الوحدة بسعر أعلى حتى تمكن من جمع 1.2 مليار جنيه في مشروع يتصرف فيه دون إرادة مالكه المستثمر "العربي" الذي لا يعرف طرقه في التلاعب.
هذه الحالات الصارخة ظهرت في أقسام الشرطة والمحاكم، ولكن هناك مئات الحوادث اليومية التي تبين أن السوق يعاني من فوضى، بسبب عدم تحديد دور المطور العقاري وعلاقته بالمالك والمشتري، ومسؤولية المالك والمطور بعد عملية البيع، عن سلامة المباني وإدارة المنشآت وتحسينها وغيره من الخدمات التي يحتاجها المشترون طوال العمر الافتراضي للمباني، وتغييرات قانون السجل العيني، والضرائب العقارية، وعدم وضع مخططات لباقي المحافظات أسوة بمدن المشروعات الرئاسية وتعطيل قانون المطور العقاري في البرلمان.
وجل هذه المشاكل طفت على السطح مع التوظيف الهائل للتكنولوجيا، والنشر عبر الإنترنت والفضائيات، وأحيانا في وسائل إعلام عربية ودولية، وهي أمور لا يملك المجلس الأعلى للإعلام أيّ سلطات عليها ولا التحكم في أدواتها.
فالأولى بالمجلس أن ينصح الحكومة بتنظيم سوق العقار الذي يمثل نحو 60% من قيمة الاستثمار والإنتاج الكلي في الدولة، بعد أن كان يمثل نحو 48% منذ عشر سنوات، وبما له من دور رئيسي في تشغيل القوى العاملة من كافة الوظائف والمهن. فلو كان ناصحا لاستمع المسؤولون لنصيحته، لكنهم يعلمون أنّ فاقد الشيء لا يعطيه.