أسماء وهويات مجهولة طفت على سطح عقود بملايين الدولارات، لإخفاء أسماء وهويات حقيقية كشفت عنها "أوراق بنما"، نسبة إلى مكتب المحاماة البنمي "مؤسسة موساك فونسيكا القانونية" المتخصصة في إنشاء حسابات خارجية.
الأوراق، التي كشفها "الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين" بالتعاون مع 108 صحف ووسيلة إعلام دولية، كان النصيب الأكبر منها لبريطانيا، حيث تقاسم ساسة ورجال أعمال وشركات في توفير ملاذات سرية للتهرب الضريبي، وملاجئ آمنة لغسيل الأموال المنهوبة من دول ترزح شعوبها تحت نير الفقر والمرض والجهل.
وكشفت "أوراق بنما" المسربة عن مساهمة والد كاميرون في تأسيس شركة "بليرمور القابضة"، وهو صندوق استثماري في البهاماس في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، وكان واحداً من خمسة مديرين مقيمين في بريطانيا حتى فترة وجيزة قبل وفاته.
وقالت صحيفة "ذا غارديان" البريطانية إنه "خلال 30 عاماً لم تدفع (بليرمور) قرشاً واحداً للضرائب في بريطانيا على أرباحها".
ورغم نفي كاميرون أية علاقة له بأي صندوق شخصي في الخارج، إلا أن زعيم حزب العمال البريطاني المعارض، جيرمي كوربين، رفض هذا المُبرر، وطالب بفتح تحقيق مستقل حول المتورطين في التهرب الضريبي، والذين وردت أسماؤهم في "أوراق بنما" المسربة، بمن فيهم عائلة رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون.
وورد اسم "إيان" والد كاميرون وأعضاء في حزب المحافظين الحاكم ضمن أسماء عشرات الآلاف من الأثرياء والمشاهير، الذين أظهرت ضمن أوراق مسربة من مؤسسة "موساك فونسيكا" تورطهم في تهرب ضريبي وغسيل أموال.
وشنت صحف بريطانية هجوماً حاداً على رئيس الوزراء، ديفيد كاميرون، بسبب تسريبات بنما، والتي ذكرت تورط والده في عمليات استثمار بملاذات ضريبية خارج البلاد.
وقالت صحيفة "ذا غارديان" إن ديفيد كاميرون أصبح معرضا للخطر بشدة، بعد فشله في تقديم بيانات واضحة وكاملة بشأن استثمارات والده، التي كشفتها "أوراق بنما".
وهاجمت "الإندبندنت" البريطانية كاميرون بسبب تسريبات بنما المتعلقة بوالده، وقالت الصحيفة، "فات الأوان على ديفيد كاميرون لفعل أي شيء خاص بإنقاذ سمعته من التدمير". كما أشارت إلى أن كاميرون يجب أن يكون مثالاً يحتذى به في الكشف عن تلك التفاصيل وتاريخها، وليس أن يجيب بأقل القليل على الأسئلة وترك العديد منها دون إجابة".
كما كشفت الأوراق عن تورط مصرفي بريطاني يقيم في كوريا الشمالية، في تأسيس شركة "أوف شور" سرية استخدمتها "بيونغ يانغ" لبيع الأسلحة وتوسيع برنامجها للأسلحة النووية. وقالت صحيفة "ذا غارديان" إن نايجل كوي كان الواجهة الرئيسية لشركة "دي سي بي فاينانس ليمتد"، المسجلة في جزر "فيرجن" البريطانية.
وعلى مستوى آخر، كشفت "أوراق بنما" تورط الشركات البريطانية، العاملة في جزر "فيرجن" البريطانية، في فضيحة تهريب الأموال. وقالت صحيفة "الإندبندنت" إن شركات خاضعة للقوانين الضريبية البريطانية تتوسط شبكة تهريب الأموال، التي تديرها شركة "موساك فونسيكا" في بنما، مشيرة إلى أن بريطانيا جاءت في المركز الثاني خلف هونغ كونغ من حيث عدد البنوك وشركات الخدمات القانونية المرتبطة بفضيحة "أوراق بنما".
وتعد جزر جرسي، وجورنزي، وآيل أوف مان، وكلها جزر تابعة للتاج البريطاني، إلى جانب المناطق الواقعة عبر البحار، مثل: جزر كايمان، برمودا، فيرجين، "الترك وكايكوس"، جبل طارق، وتخضع جميعها لسيطرة بريطانية، من أكبر الملاذات الضريبية في العالم. وتتيح الملاذات الضريبية، مثل بنما وجزر "العذراء" البريطانية، لمؤسسي الشركات إخفاء هوياتهم الحقيقية، كما توفر لهم حسابات مصرفية سرية.
وفي عام 2009 قدرت أوساط مالية أن بريطانيا تلقت أكثر من 333 مليار دولار من تلك المناطق، عبر شركات "الأوفشور"، وخاصة من جزر "كايمان" التي تُصنف على أنها خامس أكبر مركز مالي في العالم.
وكشفت "تسريبات بنما" أن أكثر من 200 ألف شركة وهمية - ليس لها نشاط فعلي على أرض الواقع - مسجلة مع شركة الخدمات القانونية "موساك فونسيكا" البنمية، وكشفت أيضاً أن نصف تلك الشركات موجودة في جزر العذراء البريطانية فقط أي أكثر من 100 ألف شركة في تلك الجزر، بينما تنتشر بقية الشركات في بنما وسيشيل ـ دولة أفريقية في المحيط الهندي، أو في جزر البهاما ودولة ساموا جنوب المحيط الهادئ.
وتمثل جزر العذراء البريطانية ملاذاً آمناً للأثرياء الذين يرغبون في إخفاء أموالهم بعيداً عن أعين الرقابة المالية في بلادهم، خاصة إذا كانت مصادر تلك الأموال غير مشروعة ولا يمكن الإعلان عن امتلاكها، حيث توفر شركة "موساك فونسيكا" سرية عالية جداً، وتطرح الشركات التي تملكها على الورق للأثرياء وترشح لهم مدراء وموظفين جميعهم يعيشون في عالم افتراضي بعيداً عن الواقع.
ويمنح النظام الضريبي في تلك الجزر تسهيلات ضريبية كبيرة مقارنة بالدول، التي خرجت منها تلك الأموال، وتعمل الشركات على إجراء عمليات تبادل متعددة وبيع وشراء على الأوراق للكثير من السلع التي يتبعها تحويلات بنكية من شركة إلى أخرى، لجعل حركة الأموال في البنوك تجري بصورة وكأنها طبيعية، لكن جميع تلك الأموال لا تصل إلى عميل فعلي في نهاية المطاف.
ورغم أن التعاملات المالية من خلال شركات "أوفشور" لا تعتبر غير قانونية بحد ذاتها، إلا أنه يمكن استغلالها لإخفاء أصول عن هيئات الضرائب، وتبييض أموال يمكن أن يكون مصدرها نشاطات إجرامية، أو إخفاء ثروة تم الحصول عليها بشكل غير قانوني.
ولا يقتصر دور بريطانيا على إخفاء الأموال "القذرة" في حسابات سرية، وخلف سجلات تجارية وهمية تخفي الأسماء الحقيقية لأصحاب الثروات، بل إن الجزء الأكبر من هذه الأموال سرعان ما يتم غسله في سوق العقار البريطاني، كما كشفت "أوراق بنما".
وكشف موقع "بي بي سي" العربي في 28 يوليو/ تموز 2015 عن وجود أكثر من 100 ألف عقار مسجل في بريطانيا لشركات "أوفشور"، بالإضافة الى أكثر من 36 ألف عقار في لندن تملكها شركات مسجلة في الخارج. وقال الموقع إن شركات أجنبية تمتلك عقارات وأراضيَ تبلغ قيمتها نحو 122 مليار جنيه إسترليني في إنجلترا وويلز.
وخلال زيارة "اقتصادية" قام بها رئيس الوزراء البريطاني إلى سنغافورة في يوليو/ تموز الماضي، اعترف كاميرون بأن العقارات في بريطانيا، خاصة في العاصمة لندن، "يشتريها أناس من الخارج عبر شركات مجهولة، بعضها بأموال منهوبة، أو مغسولة".
ولم ينف كاميرون تلك الأرقام، بل قال إن حكومته مصممة على مكافحة غسيل الأموال عبر شراء العقارات في بريطانيا.
وأضاف كاميرون: "غسَلةُ الأموال وغيرهم من الفاسدين يستعملون أسماء شركات مجهولة الملكية، ليدخلوا الأسواق ويستولوا على الأملاك." وذكر أن العقارات المملوكة من شركات "أوفشور" في بريطانيا تقدر قيمتها بنحو 122 مليار جنيه إسترليني (أي ما يعادل 190.26 مليار دولار).
وتابع: "نحن نعلم أن العقارات الفخمة وباهظة الثمن، خصوصاً في لندن، تشترى من قبل متمولين أجانب ممثلين بشركات صورية وبعضها بأموال قذرة".
ونظرا لحجم الدور البريطاني في فضيحة "أوراق بنما"، سارعت هيئة الإيرادات والجمارك البريطانية إلى طلب نسخة من البيانات المسربة حتى يتسنى لها فحص المعلومات.
وقالت جيني غرانجر، المديرة العامة للإنفاذ في الهيئة، في بيان: "تلقينا بالفعل كمّاً كبيراً من المعلومات عن شركات المعاملات الخارجية".