في أوروبا وأميركا والدول المتقدمة، يمكن ملاحظة تباين أسعار وقود المركبات في المحطات المختلفة، وتغيرها أحياناً في المحطة نفسها خلال ساعات اليوم. ويرجع السبب في ذلك بالأساس إلى أن تلك المحطات، مثلها مثل آلاف الشركات، تستخدم برامج وتطبيقات "الذكاء الاصطناعي"، التي تحدد الأسعار عشرات المرات كل يوم، وبعيداً عن التدخل المباشر لأي عنصر بشري.
ويختلف تسعير المنتجات باستخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي عن التسعير الديناميكي القديم الذي استخدم لسنوات في تسعير تذاكر الطيران، أو غرف الفنادق، أو حتى أجهزة الحاسب الآلي وشاشات التلفاز، والذي كان يقوم على قواعد بسيطة، مثل محاولة عرض أسعار تقل عن أسعار المنافسين.
أما تطبيقات الذكاء الاصطناعي الحديثة فتقوم على تحليل جبال من البيانات التاريخية واللحظية، لاستخدامها في التنبؤ بكيفية تعامل العملاء والمنافسين مع أي تغيير في الأسعار، ما يتيح لها رؤية لديناميكيات السوق، تفوق في أغلب الأحيان قدرات العقل البشري.
وتقوم تطبيقات الذكاء الاصطناعي في تلك المحطات على سبيل المثال بتحليل سلوك المستهلكين لفترات طويلة، ويمكنها عن طريق لوغاريتمات معينة معرفة تأثير رفع الأسعار سنتات قليلة – أو تخفيضها – على المستهلكين، ومعرفة سلوك سكان المنطقة، وإذا ما كان تغير أسعار الوقود يؤدي بهم للتوجه إلى محطات أخرى، وإذا ما كان أغلبهم يملأ سيارته بالوقود في الصباح أو في المساء، ويتم برمجة تلك التطبيقات لتخدم هدفاً محدداً، كتعظيم المبيعات مثلاً، فتقوم اللوغاريتمات بتحديث خططها، وبالتالي أسعارها، مع الاستفادة من الخبرات التي تتراكم طوال الوقت.
ويحقق التجار بذلك أرباحاً أكثر على حساب العملاء الذين لا يزعجهم التنازل عن مبالغ قليلة من الدولارات، بينما يحققون أرباحاً أقل ممن لا يتحملون صرف سنتات معدودة إضافية.
وتوجد أيضاً بعض التطبيقات التي تسمح بمعرفة السياسة التسعيرية للمنافسين، كما تستطيع اللوغاريتمات معرفة أي منتجات يتم شراؤها معاً، وهو ما يؤدي إلى ظهور بعض المنتجات التي يعرضها عليك الموقع الذي تشتري من خلاله (أمازون أو علي بابا مثلاً)، بمجرد إتمامك شراء منتجٍ ما. كما تقوم تلك اللوغاريتمات برفع أسعار بعض المنتجات عند اكتشاف نفادها لدى المنافسين!
ولا تهدد تطبيقات الذكاء الاصطناعي مصلحة المستهلك ومناخ المنافسة الكاملة فقط، وإنما تمتد آثارها إلى احتمالات فقد الملايين لوظائفهم، بإحلال الروبوتات محلهم، أو بإلغاء العديد من الوظائف في المستقبل القريب. فعلى سبيل المثال، ستقل الحاجة لمن يقوم بالتسويق لبعض المنتجات، وأيضاً لمن يقوم بتسعيرها، ولكثير ممن يقومون ببعض العمليات المحاسبية المرتبطة بها.
ولن تسلم وظيفة من تهديد الذكاء الاصطناعي، ويزداد يومياً عدد الشركات التي تسعى للاعتماد عليه في أعمالها، وفي وظائف مختلفة، بدءاً من قيادة سيارات نقل البضائع، وحتى أعلى الوظائف في مجال تسويق المنتجات. ومع انخفاض كلفة استخدامه، سيمكن التوسع في استخدام تطبيقاته في مجالات أبعد.
لكن الحكومات الذكية لا تستسلم لهجمة الروبوتات، ولا تترك مواطنيها يواجهونها دون مساعدة. ولذلك فقد أيد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما إلزام الشركات بحجم إنفاق معين على تدريب وتعليم العمالة لديها، ليكونوا مستعدين وقت وصول الروبوتات، كما تعهدت الحكومات بالعمل على مساعدة العمال الذين يتم الاستغناء عنهم، لزيادة فرصهم في الحصول على وظائف أخرى، مع تقوية شبكات الأمان الاجتماعي لتساعدهم على تحسين مستويات معيشتهم. واقترح بيل غيتس فرض ضرائب على إنتاجية الروبوتات، كالتي تُفرَض على دخول الأفراد، لتمويل برامح حماية العمال.
ولا يتوقف الحديث حالياً عن ضرورة تخفيض كلفة الدراسة الجامعية في الولايات المتحدة، لإتاحة الفرصة أمام أعداد أكبر من الطبقات الفقيرة للحصول على مستويات أفضل من التعليم والتدريب، وهو ما يشكل خط الدفاع الأول للأفراد في مواجهة هجمة الروبوتات.
لكن أهم ما في الموضوع، هو أن العمل على إيجاد حلول لمشكلة الاستغناء عن العمالة مع التوسع في استخدامات الذكاء الاصطناعي، يسير جنباً إلى جنب مع الأبحاث العلمية المرتبطة بتلك التطبيقات. فمصادر دخل الأفراد يتعين الحفاظ عليها، ولا يصح تعريضهم لتجربة عدم توفر دخل يمكنهم من العيش هم وأبناؤهم، وإن كان لأيامٍ معدودة.
فالحكومات الذكية لا تسمح بتطوير استخدامات الذكاء الاصطناعي، دون توفير البديل – مسبقاً – للعمال، كما أن الحكومات الذكية لا تسارع في تطبيق برامج الإصلاح الاقتصادي، مع ما بها من تخفيض للدعم، ورفع أسعار لكثير من السلع الأساسية، قبل أن تبدأ في تطبيق إجراءات حماية الفقراء.
والحكومات الذكية لا تقوم برفع أسعار أنواع الوقود المختلفة بنسب تراوح بين 40% و100% قبل أن تكون قد وفرت بدائل للمواطنين، وتأكدت من توفير وسائل نقل آدمية بكلفة معقولة. فالحكومات الذكية لا تلقي القنابل الاقتصادية على شعوبها، وتتركهم لمواجهة مصيرهم المحتوم.
والحكومات الذكية لا تضع حداً أدنى للأجر، وتتباطأ في تنفيذه، وتسمح للقطاع الخاص بالتهرب منه، ثم تخفض قيمة عملتها بأكثر من خمسين بالمائة، دون النظر في رفع هذا الأجر، فالحكومات الذكية لا تترك مواطنيها يصارعون الحياة دون مد يد العون لهم.
وبالتأكيد، فإن الحكومات الذكية لا تضع موازناتها العامة، ثم تكتشف بعد انتهاء العام المالي أنها بحاجة لزيادة مخصصاتها – بالاقتراض طبعاً – بحوالى مائة مليار جنيه (حوالي 8% من إجمالي نفقاتها)، وغالباً ما يأتي ذلك على حساب الإنفاق الاستثماري في التعليم والصحة.
وأخيراً، فإن الحكومات الذكية تعمل على استخدام كافة الموارد المتاحة لديها، وأهمها الموارد البشرية، ولا تعادي ولا تطرد شبابها لاختلافات سياسية أو اختلافات في الرأي، وإنما تعمل دائماً على توفير التعليم والتدريب المناسب لهؤلاء الشباب، كونهم يمثلون العمود الفقري لأي تنمية اقتصادية تسعى إليها بلداننا العربية، مهما بلغت درجة التطور التقني الذي حققناه.
فهل نطمع في استيراد حكومة ذكية قبل استيراد منتجات الذكاء الاصطناعي الأخرى؟!