ليلة عيد ميلاده الـ85، يموت كاتب روايات بوليسية مشهور. رُبِطت لحظة الموت بلحظة الولادة. روائي عظيم يموت أو يُقتل. ما معيار العظمة؟ تُرجمت كتبه إلى 30 لغة، بيع منها 81 مليون نسخة في العالم. كان يكتب عن الجرائم والتحقيق فيها، فصارت جثته موضوعاً للتحقيق. انقلبت عليه مهنته.
هكذا تتضح خصائص النوع الفيلمي. فيلم بوليسي هو فيلم حبكة أساسا. الحدث هو المهم، وهو يبدأ بمرحلة بناء اللغز. هذا ليس حرقاً لقصّة الفيلم، بل ترتيب للإشارات الواردة في الوصلة الدعائية لـ À couteaux tirés، لراين جونسون، الذي افتتح الدورة الـ18 (29 نوفمبر/تشرين الثاني ـ 7 ديسمبر/كانون الأول 2019) لـ"المهرجان الدولي للفيلم بمرّاكش".
جونسون مخرج "حرب النجوم الحلقة الـ8: آخر الجداي" (2017)، الذي حقّق ملياراً و332 مليوناً و539 ألفاً و889 دولارا أميركيا (ميزانية الإنتاج: 317 مليون دولار أميركي). رسخ اسمه في هوليوود، فصار بإمكانه أن يحاول شيئاً جديداً، كالانتقال من تصوير أفلام الملاهي الباهظة، بحسب تعبير مارتن سكورسيزي، إلى تصوير أفلام فيها بشر، يحاولون نقل تجارب عاطفية ونفسية إلى أناس آخرين.
لعرض تجارب كهذه، اعتمد راين جونسون "كاستينغ" يضمّ وجوها مختلفة الملامح، يحمي تعدّدها من الملل. لكلّ واحد من أبناء الروائي وجه مختلف للغاية عن الآخر، كأنّهم ليسوا إخوة. صُوِّر الأبناء في "كادر" ثابت مقرّب، وهم يجلسون على كراسي عالية أثناء التحقيق معهم، كما في محكمة. يبدو الفيلم فصولا تتناول كلّ ابن على حدة، ثم يشْبك جونسون الشخصيات فيما بينها. النتيجة: النصف الثاني أكثر تشويقاَ، لأن موضوع النزاع صار واضحاَ تماماَ، وبات المهدّدون بالخسارة كثيرين. كشّروا عن ألسنتهم وسكاكينهم.
بينما يصرخون للحصول على نصيبهم من الإرث، يبحث المحقّق عن المجرم. يُجري حوارات طويلة. يجمع معطيات لصوغ فرضية واتهام. حوارات تخرج منها خيوط تتشابك وتكشف ما هو حاصل. يضرب المحقّق أفراد العائلة بعضهم بعضا، فيجني وشايات متبادلة، في حوارات دقيقة، تفضح ما في دواخل أفراد العائلة من أحقاد، أثناء معركة على ثروة، مشكوك في مصيرها.
الفيلم حواري أكثر منه سينما للعين، أي أنّ الحوار يغلب على الصورة السينمائية. رغم التصوير في فضاء مزدحم بالأيقونات والتماثيل، في معمار قروسطي ذي نوافذ مستطيلة عالية، فإن جودة الديكور لا تغني عن ضرورة الحركة في الحكي. يُكتشف منزل الكاتب مع تقدم الأحداث. يُخبر ديكور المنزل عن الثقافة البصرية للكاتب البوليسي. معمار عريق، فيه مسارب وسلالم ودهاليز. بذلك، تُعمِّق طوبوغرافيةُ المكان غموضَ الأحداث. للمكان أكثر من مَخرج. هذا يُعقِّد عمل الكاميرات والمراقبة بالعين المجرّدة. هنيئا للمجرم.
يعلن المحقّق أنّه أمام عُقدٍ. بذلك، يحلّل مهنته سردياً. محقّق صبور في حبكة بوليسية مشبعة بالأسرار. حين يبحث عن حلّ لعقدةٍ، يتّضح له أنّ في الحبكة ثقباً في الوسط، كما في كعكةٍ. مهمّته حَلّ اللغز، لملء الوسط، فتصير الكعكة مملوءة كخبزة. ليست هذه أول مرة يفكّر فيلم في سرده بلغة الطبخ وصفاته. يفهم الجمهور الحوارات جيداً، حين تستعين بمعجم الأكل.
يتزامن حلّ الحبكات الفرعية مع التنقّل في القصر القديم، لاقتفاء آثار المجرم. مع كلّ نقلة، يظهر معمار عريق، تُضيئه نوافذ مستطيلة عالية، تُمكِّن المخرج من استخدام الضوء الخارجي لإضاءة عتمة شخصياته. هذا أعطى للمعمار قيمة كبيرة. أحياناً، يأتي الضوء من الخارج شديداً، فيُعمي الكاميرا الموجودة في الداخل. النتيجة: وجوه الشخصيات تبقى مبهمة، كوساوسها وأطماعها.
يتطلّب فيلم التحقيق البوليسي ألغازاً وغموضاً، ينبغي كشفها على مراحل. غموض "مُهيكل"، أي قابل لحلٍّ مفهومٍ تدريجياً، وفقاً لمعيار التلقي. هكذا، يفهم المتفرّج، بغرض استدراجه هو أيضاً إلى البحث عن المجرم. قطعة الخشب المكسورة في بداية الفيلم، والملقاة في الهامش، تصير وسيلة لتفسير حدثٍ مهم.
يساعد الـ"فلاش باك" على ربط السابق باللاحق. يُعتبر هذا شرطاً للتحقيق البوليسي، الذي يجري بعد الجريمة، ويستعيد ما قبلها. "فلاش باك" لتغطية ما ينقص، ومفاجأة المتفرّج بما لم ينتبه إليه. هذا يبرّر كسر خطّ السرد.
يغلب التصوير الداخلي على الفيلم، ما أضعف حركة الكاميرا وعمق المشاهد. لملء الفراغات في الفرجة، يشتغل المخرج طويلا على حوارات ساخرة، وتنوّع وجوه الشخصيات وأمزجتها، لخلق الفرجة. مثلا، لدى صاحبة القلب الطيب ردّ فعل بيولوجي على الأكاذيب التي تبلعها مرغمة. الفيلم درس في كتابة حوارات الأفلام السينمائية.
فيلم يكشف مدى قدرة الطمّاع على الكذب على الأب والذات. كيف هي علاقة البشر بالنقود؟ النقود تذلّ البشر. حين يكتشف الأب حجم ذلّ أبنائه، يقوم بنقد ذاتي مرير، ويعترف بأنّه يُدلّل أولاده ليبقوا تحت سيطرته. يُقرّر تصحيح الوضع. من هنا، تولد الكارثة.
اقــرأ أيضاً
هكذا تتضح خصائص النوع الفيلمي. فيلم بوليسي هو فيلم حبكة أساسا. الحدث هو المهم، وهو يبدأ بمرحلة بناء اللغز. هذا ليس حرقاً لقصّة الفيلم، بل ترتيب للإشارات الواردة في الوصلة الدعائية لـ À couteaux tirés، لراين جونسون، الذي افتتح الدورة الـ18 (29 نوفمبر/تشرين الثاني ـ 7 ديسمبر/كانون الأول 2019) لـ"المهرجان الدولي للفيلم بمرّاكش".
جونسون مخرج "حرب النجوم الحلقة الـ8: آخر الجداي" (2017)، الذي حقّق ملياراً و332 مليوناً و539 ألفاً و889 دولارا أميركيا (ميزانية الإنتاج: 317 مليون دولار أميركي). رسخ اسمه في هوليوود، فصار بإمكانه أن يحاول شيئاً جديداً، كالانتقال من تصوير أفلام الملاهي الباهظة، بحسب تعبير مارتن سكورسيزي، إلى تصوير أفلام فيها بشر، يحاولون نقل تجارب عاطفية ونفسية إلى أناس آخرين.
لعرض تجارب كهذه، اعتمد راين جونسون "كاستينغ" يضمّ وجوها مختلفة الملامح، يحمي تعدّدها من الملل. لكلّ واحد من أبناء الروائي وجه مختلف للغاية عن الآخر، كأنّهم ليسوا إخوة. صُوِّر الأبناء في "كادر" ثابت مقرّب، وهم يجلسون على كراسي عالية أثناء التحقيق معهم، كما في محكمة. يبدو الفيلم فصولا تتناول كلّ ابن على حدة، ثم يشْبك جونسون الشخصيات فيما بينها. النتيجة: النصف الثاني أكثر تشويقاَ، لأن موضوع النزاع صار واضحاَ تماماَ، وبات المهدّدون بالخسارة كثيرين. كشّروا عن ألسنتهم وسكاكينهم.
بينما يصرخون للحصول على نصيبهم من الإرث، يبحث المحقّق عن المجرم. يُجري حوارات طويلة. يجمع معطيات لصوغ فرضية واتهام. حوارات تخرج منها خيوط تتشابك وتكشف ما هو حاصل. يضرب المحقّق أفراد العائلة بعضهم بعضا، فيجني وشايات متبادلة، في حوارات دقيقة، تفضح ما في دواخل أفراد العائلة من أحقاد، أثناء معركة على ثروة، مشكوك في مصيرها.
الفيلم حواري أكثر منه سينما للعين، أي أنّ الحوار يغلب على الصورة السينمائية. رغم التصوير في فضاء مزدحم بالأيقونات والتماثيل، في معمار قروسطي ذي نوافذ مستطيلة عالية، فإن جودة الديكور لا تغني عن ضرورة الحركة في الحكي. يُكتشف منزل الكاتب مع تقدم الأحداث. يُخبر ديكور المنزل عن الثقافة البصرية للكاتب البوليسي. معمار عريق، فيه مسارب وسلالم ودهاليز. بذلك، تُعمِّق طوبوغرافيةُ المكان غموضَ الأحداث. للمكان أكثر من مَخرج. هذا يُعقِّد عمل الكاميرات والمراقبة بالعين المجرّدة. هنيئا للمجرم.
يعلن المحقّق أنّه أمام عُقدٍ. بذلك، يحلّل مهنته سردياً. محقّق صبور في حبكة بوليسية مشبعة بالأسرار. حين يبحث عن حلّ لعقدةٍ، يتّضح له أنّ في الحبكة ثقباً في الوسط، كما في كعكةٍ. مهمّته حَلّ اللغز، لملء الوسط، فتصير الكعكة مملوءة كخبزة. ليست هذه أول مرة يفكّر فيلم في سرده بلغة الطبخ وصفاته. يفهم الجمهور الحوارات جيداً، حين تستعين بمعجم الأكل.
يتزامن حلّ الحبكات الفرعية مع التنقّل في القصر القديم، لاقتفاء آثار المجرم. مع كلّ نقلة، يظهر معمار عريق، تُضيئه نوافذ مستطيلة عالية، تُمكِّن المخرج من استخدام الضوء الخارجي لإضاءة عتمة شخصياته. هذا أعطى للمعمار قيمة كبيرة. أحياناً، يأتي الضوء من الخارج شديداً، فيُعمي الكاميرا الموجودة في الداخل. النتيجة: وجوه الشخصيات تبقى مبهمة، كوساوسها وأطماعها.
يتطلّب فيلم التحقيق البوليسي ألغازاً وغموضاً، ينبغي كشفها على مراحل. غموض "مُهيكل"، أي قابل لحلٍّ مفهومٍ تدريجياً، وفقاً لمعيار التلقي. هكذا، يفهم المتفرّج، بغرض استدراجه هو أيضاً إلى البحث عن المجرم. قطعة الخشب المكسورة في بداية الفيلم، والملقاة في الهامش، تصير وسيلة لتفسير حدثٍ مهم.
يساعد الـ"فلاش باك" على ربط السابق باللاحق. يُعتبر هذا شرطاً للتحقيق البوليسي، الذي يجري بعد الجريمة، ويستعيد ما قبلها. "فلاش باك" لتغطية ما ينقص، ومفاجأة المتفرّج بما لم ينتبه إليه. هذا يبرّر كسر خطّ السرد.
يغلب التصوير الداخلي على الفيلم، ما أضعف حركة الكاميرا وعمق المشاهد. لملء الفراغات في الفرجة، يشتغل المخرج طويلا على حوارات ساخرة، وتنوّع وجوه الشخصيات وأمزجتها، لخلق الفرجة. مثلا، لدى صاحبة القلب الطيب ردّ فعل بيولوجي على الأكاذيب التي تبلعها مرغمة. الفيلم درس في كتابة حوارات الأفلام السينمائية.
فيلم يكشف مدى قدرة الطمّاع على الكذب على الأب والذات. كيف هي علاقة البشر بالنقود؟ النقود تذلّ البشر. حين يكتشف الأب حجم ذلّ أبنائه، يقوم بنقد ذاتي مرير، ويعترف بأنّه يُدلّل أولاده ليبقوا تحت سيطرته. يُقرّر تصحيح الوضع. من هنا، تولد الكارثة.
في الفيلم، يهزمُ القلب الطيبُ البريءُ الإخوةَ الورثة، الحقودين المجرمين الجشعين. يحمل صراع الإخوة صدى من "الإخوة كرامازوف" لدوستويفسكي. فيه أيضا موت ولغز وسكاكين مزيّفة، وصورة مريعة لعائلة بورجوازية متحضّرة. فيلم يجمع المعمار والنحت والرسم والرواية والتحقيق البوليسي. هكذا تهضم وتقطع السينما في قرنٍ الطريق كلّها، التي قطعها السرد والفنون الأخرى في 4 آلاف عام. النتيجة، بحسب إيريك هوبزباوم: "صار الفيلم السينمائي، والفنون البصرية المشتقّة منه، الفنّ المركزي في القرن الـ20". فنّ مركزي يكشف تجارب عاطفية ونفسية للبشر، في القرن الماضي، كما في القرون المقبلة.