الإعلام الإسرائيلي: تضليل يتوخّى الدقة قبل النشر وبعده

23 أكتوبر 2024
في رفح، 18 نوفمبر 2023 (محمد عبد/ فرانس برس)
+ الخط -
اظهر الملخص
- الرقابة العسكرية في إسرائيل تفرض نظامًا صارمًا على الإعلام، حيث يقوم "الرقيب العسكري" بمراجعة الأخبار المتعلقة بالأمن القومي قبل نشرها، بهدف حماية المعلومات الحساسة والسيطرة على الرأي العام، مما يخلق فجوات معرفية تؤثر على وعي الجمهور.

- تستخدم وسائل الإعلام الإسرائيلية استراتيجيات مثل التعتيم الإعلامي وصياغة اللغة لتشكيل فهم الجمهور للأحداث، مما يساهم في تقديم رواية تتماشى مع الأجندة الرسمية وتضليل الرأي العام العالمي.

- تُلزم وسائل الإعلام بمراجعة المحتوى المتعلق بالأمن القومي قبل النشر، مما يضمن السيطرة على تدفق المعلومات، رغم التحديات التي تواجهها مع تطور وسائل الإعلام الحديثة.

جعلت البيئة الجغرافية والسياسية التي تجد فيها دولة الاحتلال الإسرائيلي نفسها منذ نشأتها، كياناً قلقاً يسعى باستمرار إلى حماية نفسه وروايته بجميع الوسائل الممكنة. في منتصف هذا السياق المعقد لدولة قائمة على الإنكار، أصبح الإعلام الإسرائيلي يعمل تحت مجموعة كبيرة من القيود، التي تمسي أكثر صرامة خلال الأزمات الكبرى مثل الحرب الحالية ضد قطاع غزة، إضافة إلى الأزمة الأخلاقية التي يواجهها الجيش الإسرائيلي دولياً، والأزمة الداخلية التي تعصف بالمجتمع الإسرائيلي. تحولت ثنائية "الخير والشر" إلى أداة إعلامية تستخدمها دولة الاحتلال منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 لتسليح القضايا، مبرّرة من خلالها الممارسات القمعية والإبادة التي تُمارس ضد الشعب الفلسطيني.

الرقابة العسكرية على الإعلام الإسرائيلي

توازياً مع إنشاء دولة الاحتلال، أُقيم نظام مؤسسي مؤثر بشدة على الإعلام الإسرائيلي يعرف بالرقابة العسكرية. وهي وحدة تابعة لشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) في الجيش الإسرائيلي، ويتولى قيادتها ضابط يُعرف بـ"الرقيب العسكري".
في سياق الحرب على غزة، توسعت أدوار هذه المؤسسة لتشمل استراتيجيات عسكرية حساسة واعتبارات دبلوماسية؛ إذ يمكن أن يؤدي تعامل الإعلام الإسرائيلي مع هذه القضايا بطريقة "غير مسؤولة" إلى تعريض الأمن القومي للخطر، وتعقيد العلاقات الدولية لكيان يخوض حرب إبادة مستمرة ضد الفلسطينيين. لهذا السبب، تخضع جميع الأخبار التي تنشرها وسائل الإعلام العبرية إلى مراقبة دقيقة قبل النشر، بهدف السيطرة على الرأي العام وحماية ما تسميه دولة الاحتلال "الأمن القومي الإسرائيلي".
يعكس تاريخ هيئة الرقابة العسكرية جهوداً طويلة الأمد لحماية المعلومات العسكرية الحساسة، وقد عُدّلت إجراءاتها الصارمة لمواجهة الحرب على غزة. في حين تساهم تطبيقاتها على الإعلام في خلق فجوات معرفية متعمدة تؤثر في وعي الجمهور وفهمهم لأحداث تاريخية حاسمة، ما يؤدي في النهاية إلى تطبيق علم الجهل على وعي الجمهور الذي يتابع الصحافة العبرية.
عند النظر إلى دور علم الجهل في الإعلام الإسرائيلي، نفهم ما وصفه المؤرخ روبرت بروكتور، بأن علِم الجهل لا ينطوي بالضرورة على ممارسة الجهل المتعمد أو حالة إنكار مرضية، بل يمكن أن يكون شكلاً من أشكال الخطاب الذي تحركه ضغوط أيديولوجية مؤسسية وهيكلية، ما يؤدي إلى حالة من "عدم المعرفة" المتعمدة.
يمثل تجنب المشاركة في أحداث معينة أثراً يُنتَج طوعاً من خلال وسائل القمع والضغط والسرية. يتشابه هذا النوع من الجهل مع العديد من الاستراتيجيات المستخدمة لإخفاء المعرفة "غير المرغوب فيها"، وهو مفهوم درسه بعمق عالم الاجتماع ستانلي كوهين في كتابه States of Denial.
أساليب ممارسة علم الجهل في الإعلام الإسرائيلي تتضمن عدة استراتيجيات تهدف إلى التحكم في المعلومات التي تصل إلى الجمهور وتشكيل فهمهم للأحداث. من بين هذه الأساليب:

التعتيم الإعلامي

عند تطبيق سياسة التعتيم ونظرية علِم الجهل التي تمارسها الرقابة، يظهر هذا التأثير بوضوح في الأخبار التي يُصور فيها الاحتلال جرائمه على أنها مجرد عمليات عسكرية تستهدف "حماس" في غزة. يجري ذلك من دون الاعتراف بتورطه في جرائم ضد المدنيين، أو تنفيذ سياسات تطهير عرقي أو تجويع، كما يحدث في شمال غزة. يُستخدم التعتيم لحجب المعلومات التي قد تكون محرجة للجيش أو الحكومة، ما يحافظ على الجمهور في حالة جهل حول جوانب معينة من الأزمة، وهو أمر حاسم للاستراتيجية الإعلامية.
في إحدى الحالات، نشرت صفحة "إسرائيل بالعربية" خبراً يزعم أن المخابز في قطاع غزة تعمل بكثافة، مشيرة إلى أن مكتب منسق أعمال الحكومة في المناطق يجري الترتيبات اللازمة لتزويدها بالوقود. في حين أصدر الإعلام الحكومي في 14 أكتوبر الحالي بياناً يفند هذه الادعاءات، مؤكداً فيه ممارسة الاحتلال الكذب والتضليل في ما يتعلق بإدخال شاحنات الطحين، وبأن الجيش الإسرائيلي يضيق الحصار على محافظتي غزة والشمال منذ 170 يوماً.
تبعاً لتحقيقات موقع مسبار، المتخصص في التحقق من المعلومات وكشف الكذب في الفضاء العمومي، ذكر أنه "لاحظ بأن الاحتلال روّج هذه الادعاءات تزامناً مع تشديده إجراءات إدخال المساعدات إلى قطاع غزة، وفرضه حصاراً خانقاً على شمال القطاع ومحاولة عزله عن بقية المناطق عسكرياً، ومنع إدخال أي صنف من المواد الغذائية أو المساعدات الإنسانية، في خطوة تهدف إلى تضليل الرأي العام العالمي، وتخفيف حدة الانتقادات الدولية الموجهة ضده، بسبب الحصار اللاإنساني الذي يفرضه على سكان الشمال".

صياغة اللغة

اللغة من أهم الأدوات التي يُبنى عليها الخطاب الإعلامي. وبالتالي، فإن استخدام اللغة وتعبيراتها في سياقات معينة، يمثل جزءاً بارزاً مما تمارسه وسائل الإعلام الإسرائيلية في حربها ضد قطاع غزة. وقد رُصدت وسائل الإعلام وهي تتلاعب بالخطاب واللغة، مجتزئة ما يناسبها من الروايات منذ بداية العدوان على غزة. هذا التلاعب يساهم في تشكيل تصوّرات ذهنية معينة في وعي الجمهور، تخدم الرواية التي تدعمها الدولة وتحميها.
"أؤكد أنني لم أتعرض للضرب، بل أصبت في جميع أنحاء جسدي جراء انهيار المبنى عليّ (...) بوصفي ضحية لأحداث 7 أكتوبر، لن أسمح لنفسي بأن أكون ضحية لوسائل الإعلام مرة أخرى". هذا ما قالته الأسيرة الإسرائيلية السابقة نوعا أرغماني، في 23 أغسطس/آب الماضي، وذلك عقب شهادة أدلت بها أمام دبلوماسيين يابانيين في طوكيو.

كان هذا رد أرغماني بعد أن اقتُطع حديثها وجرى تحريفه من قبل وسائل الإعلام الإسرائيلية، إذ نُشرت الأخبار بما يوحي بأن أرغماني تشير إلى عناصر "القسام"، وليس إلى قصف الجيش الإسرائيلي. وأضافت أرغماني أن تصريحاتها أخرجت من سياقها، فنسبت إليها الصحافة الإسرائيلية ادعاءات بأنها تعرضت للضرب وقص شعرها أثناء الأسر في غزة.
في قصة أرغماني، يتضح أسلوب إضافي لتطبيق علم الجهل على الإعلام وهو اختيار القصص. ومن خلال هذا الأسلوب، يجري التركيز على القصص التي تتماشى مع الرواية الرسمية لدولة الاحتلال مع التجاهل التام للقصص التي تظهر معاناة المدنيين الفلسطينيين.
فعلى سبيل المثال، تجاهل الإعلام الإسرائيلي التحرك العسكري الكبير الذي شهدته عملية استعادة الأسيرة مع ثلاثة أسرى آخرين في مخيم النصيرات، والتي أسفرت عن مجزرة أدت إلى استشهاد 270 مدنياً وإصابة مئات الفلسطينيين في 8 يونيو/حزيران 2024.
واستهدف الجيش الإسرائيلي المنزل الذي كان يقطن فيه الأسرى الأربعة، إضافة إلى المنازل المجاورة، بقصف متواصل بأحزمة نارية. ومع ذلك، ركز الإعلام الإسرائيلي على عملية استعادة الأسرى تبريراً للعمليات العسكرية، من دون الإشارة إلى الكوارث العسكرية والأخلاقية التي عانى منها الضحايا.

ما سُمح بالنشر

تمثل ممارسة "ما سُمح بالنشر" إحدى أخطر الوسائل التي تستخدمها دولة الاحتلال للسيطرة على تدفق المعلومات والحيلولة دون خروجها عن الإطار المرغوب فيه. بناءً على ذلك، تُلزم جميع وسائل الإعلام بتقديم أي محتوى يتضمن معلومات تتعلق بالأمن القومي أو القضايا العسكرية إلى الجهات العسكرية للمراجعة قبل النشر، لضمان أن المعلومات التي قد تُستخدم ضد الدولة لا ترى النور.
يمكن القول إن مفهوم "ما سُمح بالنشر" فضفاض، فيمكن استخدامه كأداة لإحكام السيطرة على الإعلام، وتفعيله في الأوقات والمواضيع التي تُعتبر حساسة أو غير ملائمة للنشر العام، بحسب رؤية الدولة.
في فبراير/ شباط 2024، نشرت صحيفة The Times of Israel مقالاً حول مساعي نتنياهو إلى حظر نشر تسريبات مجلس الوزراء الأمني. تضمّن المقال إشارات إلى تقارير تفيد بأن رئيس الوزراء يرغب في الحصول على موافقة الرقابة العسكرية على كل المحتوى المتعلق بالجيش، مع فرض قيود على ما يمكن الموافقة عليه. وقد أثارت هذه الخطوة غضب اتحاد الصحافيين الإسرائيليين، إذ اعتبرها "إشارة تحذيرية صارخة" تهدد حرية الصحافة. وذكرت صحيفة هآرتس في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي أن الرقيب العسكري العميد كوبي ماندلبليت، اشتكى من أن رئيس الوزراء وكبار المسؤولين الحكوميين يمارسون ضغوطاً عليه، لتكميم بعض المنشورات الإعلامية من دون وجود مبرر أمني لذلك.

هكذا، نجد أنفسنا بين فكي الجريمة. من جهة، هناك جهاز عسكري يمارس عمليات إبادة في قطاع غزة، ومن جهة أخرى، هناك جهاز إعلامي يساهم في التغطية والتعتيم والتضليل ويمارس سياسات الجهل. ومع ذلك، تظل دولة الاحتلال تواجه أزمة في التعامل مع تطور وسائل الإعلام التي تحلّل الأحداث وتكشف الحقائق، وتعمل على بناء منظومة مواجهة مستمرة للحرب الإعلامية والعسكرية التي تُمارس ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.

المساهمون
The website encountered an unexpected error. Please try again later.