ينتهي فيلمٌ هندي ما، ويمتدّ صوت أغنيته بعد منتصف الليل، بينما يتجوّل مُشغِّلُ آلةِ العرض 35 ملم رفقة طفل، ويتساءل عمّاذا سيظهر لو سقطت الحيطان.
"لو كان يطيحو لحيوط" (2022)، لحكيم بلعباس، عنوانٌ مأخوذ من جملةٍ، كان يردّدها ذلك الرجل العامل في السينما. الفيلم جوابٌ مُصوّر على افتراض ماذا لو سقطت هذه الحيطان.
ماذا سنرى؟
كي لا تصطدم الكاميرا بالحيطان الساترة، هَدَم حكيم بلعباس الجدار الرابع، الوهمي، الذي يفْصِل المشاهدين عن المشهد في مدينة طفولته. هَدَم الحيطان الهرمة والمتآكلة والباهتة، لكي يكشف ما يجري في الدروب الملتوية لمدينة صغيرة.
تتلصّص الكاميرا على العوالم الصغرى لشخصياتٍ تكدح من أجل الحدود الدنيا للعيش. تتلصّص على أثر الموت ونُدوبه، الموت الذي لا يحترم تراتبية الأعمار.
نكتشف حكايات عزلة. يكشف صوت ارتطام الكرة، المُعدّل في الميكساج، هشاشة الحيطان التي يلعب بينها الأطفال. تكشف المراهنةُ هشاشة الرجل الذي يسكن تلك الحيطان. صوّر بلعباس شخصيات حقيقية كثيرة في بيئتها، واعتمد على عددٍ قليل من الممثلين. تجري حوارات قليلة، لأنّ الكلام خلُص، أو فَقَد مفعوله.
يتجوّل الفيلم بين الحيطان، التي تُشكِّل ديكوره المركزي. حيطان عتيقة، مُشبعة بنكهة الماضي. تبدأ كلّ حكاية من مكانٍ ما. لا تجري الأحداث في مكان تجريدي. خارج المكان وخارج الزمان، هناك العدم، وليس لدى الكاميرا ما تلتقطه.
ماذا وراء الجدران العتيقة؟ ماذا خلف الحيطان الساترة؟ عزّزت المعايشة الطويلة للمكان قدرة بلعباس على التعمّق فيه، والقبض على نكهته. هكذا صار للحيطان أنفٌ وعيون، بعدما كانت لها آذان فقط.
سردياً، يتكون "لو كان يطيحو لحيوط" من أنوية متجاورة عدّة، ومن حكايات مستقلّة، تشبه جارتها في بنيتها السردية. أنوية صغرى تبني قصة كبرى. كلّ نواة سردية جزءٌ من كلّ، لكنّها تحتفظ باستقلالية وهوية خاصة.
يبدأ الفيلم بمشاهد شاعرية غير سردية للحياة اليومية، مشبعة بالحنين. هناك بطء في المقاطع الأربعة الأولى، والبطء اختيارٌ جماليّ يهدف إلى الإمساك بالزمن الميت في حياة البشر. يُعدّل حكيم بلعباس منهجه في النصف الثاني من فيلمه. صارت الحكايات أكثر تشويقاً. النصف الثاني أعلى إيقاعاً، وأكثر كثافة وتماسكاً على صعيد الحكي.
لماذا يحتاج المشاهدون إلى الحكي؟ لأنّ الأحداث التي لا تُقدَّم في سياق روائي تُنسى بسرعة، بحسب نسيم طالب. الحكي وسيلة لتنظيم المعلومات، ولهذا تبعات: يُسهّل تنظيم المعلومات وتعاقبها فعل التذكّر لدى البشر. (نسيم طالب، "البجعة السوداء، تداعيات الأحداث غير المتوقعة"، ترجمة حليم نسيم نصر، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى، 2009، ص. 117 ـ 123). يضيف أنّ القواعد والنظم "تُسهِّل تقليص المسائل، ليُدخلها البشر في رؤوسهم"، بينما يصعُب استيعاب المعلومات العشوائية. هذا التنظيم السردي ضروي، حتّى أنّ نسيم طالب يتحدّث عن "اعتمادنا البيولوجي على الحكاية" لتفسير أفعالنا. المكان الذي تعيش فيه الشخصيات عنصرٌ مهمّ في التفسير.
وحدة المكان خيطٌ مرئي يربط الحكايات المتوالية. المكان من أكثر المفاهيم وضوحاً في الهندسة. إنّه السطح والطول والعرض والعلوّ والعمق. عندما نرى كيف يتحرّك الممثل والكاميرا في هذا الفضاء، تظهر لمسة الإخراج. هناك وحدة المكان ووحدة الحدث وتعدّد الشخصيات. يقدّم حكيم بلعباس كتالوغ وجوهٍ من المغرب العميق. بورتريه وجوه من زمن مضى: ماسح أحذية يعتني بحذائه، ويتسلّى بتلميعه، لأنْ لا زبائن له. للخلاص من هذا المكان المقفر، يركض اللص من منعطف مرتفع، ويهرب.
تظهر لمسة الأسلوب على الموضوع. الفيلم محاولة للقبض على زمن مضى. التقَطَ إيقاع الحياة البطيء في المغرب العميق. للعلاقة بالمكان جانب أوتوبيوغرافي. روى بلعباس أنّه، في صغره، كان يرافق عامل آلة العرض (مصطفى الشباني) في سبعينيات القرن الماضي وبداية ثمانينياته. بهذا الشكل، يُصبح الفيلم حكياً استعادياً بصرياً لما يُحتمل أنْ يكون جرى خلف الحيطان من حبّ وعنف وفوارق. توجد صلة بين توبوغرافية المكان وطبيعة الشخصيات التي تقطنه.
بُني الفيلم على تفاصيل ذاكرة بصرية طفولية، تشتبك فيها الشخصية بالمكان. إنّه عبارة عن مقاطع تتكامل لتقديم بورتريه لوجوه وأمكنة، رسخت في ذاكرة طفل، عاش هناك ذات زمن.
منح البحثُ الأسلوبي الحكيَ أبعاداً جديدة. يظهر أنّ هناك تفكيراً في الأسلوب والشكل، اللذين يعرض بلعباس بهما موضوعه. لديه وعي بالتقنية التي يسرد بها قصته. تمثّل العجوز عين المشاهد، وهي تجلس لتشاهد. سينما في السينما. هناك سرد دائري، يبدأ بشاشةٍ وينتهي بها. نرى السينما والعالم بعينيّ عجوز. نكتشف حياة مختبئة خلف حيطان ساترة.