استمع إلى الملخص
- تحت إدارة ريانون غيدينز، أصدرت فرقة "طريق الحرير" ألبوم "طريق السكك الأميركي" لإعادة قراءة تاريخ السكك الحديدية في الولايات المتحدة من منظور العمال المجهولين.
- الألبوم يتميز بموسيقى تجريبية تمزج بين الأصوات الآلية والبشرية، مع التركيز على الهوية الثقافية، ويستعيد أغنية تروي قصة مأساوية لعمال أمريكيين سود.
على هوى روح العصر التي تأسّس في إبّانها، ينتمي "طريق الحرير" (المشروع الفني العابر للهويّات الثقافية والطرز الفنية)، الذي أطلقه عازف التشيلو الصيني الأميركي يو يو ما سنة 1998 إلى "نهاية التاريخ"، أي إلى النظرة المستقبلية الشهيرة، التي تبنّاها المفكر الأميركي من أصلٍ ياباني، فرانسيس فوكوياما، نهاية القرن الماضي، حينما استشرف أبداً بشريّاً يعمّ فيه السلام، وتسود الديمقراطية في كل البلدان، على كرة أرضية ما انفكت تستحيل قريةً صغيرةً، بفضل عولمة التجارة الحرة وثورة الاتصالات، طليعتها الولايات المتحدة الأميركية.
لذا، فإن "طريق الحرير" مشروعٌ ثقافي في ظاهره، سياسيٌّ في باطنه، مستلهمٌ من يوتوبيا مطلع الألفية الثالثة، يرى في الفن، والموسيقى بحسب تخصّص معظم القائمين عليه، منصّة حوارٍ مجازيٍّ بين الثقافات، وجسرَ تلاقٍ وتقاطعٍ أسلوبيٍّ بين وسائل تعبيرها المختلفة، يستجيب إلى تصوّرٍ جديدٍ للعالمية (Universality) لم يعد ينضوي تحت مظلة الموسيقى الكلاسيكية الغربية، بوصفها صوتاً جامعاً، لثقافة قائدة (Leitkultur) كما كانت الحال في الغرب حتى انتهاء الحرب الباردة، وإنما موسيقى العبور (Crossover) بوصفها بوتقة تعددية ثقافية (Multiculturalism)، تصهرُ أصواتاً محليّة أصيلة، أو هجينة، من أقاليم وبلدان حول العالم.
منذ سنة 2020، تتولى ريانون غيدينز (Rhiannon Giddens) الإدارة الفنية لفرقة "طريق الحرير". غيدينز مغنيّة وموسيقية أميركية متعددة الوسائط، تحمل في جعبتها إرثاً أفروأميركيّاً وتأهيلاً كلاسيكياً غربياً، تجمع في أعمالها ما بين الموروث الشعبي والإلكترونيات، قد حازت سنة 2011 جائزة غرامي عن أفضل ألبوم موسيقى فولكلورية، ولها باع في تأسيس وإدارة عدة فرق موسيقية.
بإشراف غيدينز، صدر للفرقة في شهر نوفمبر/تشرين ثاني الماضي، ألبومٌ جديدٌ، بعنوان "طريق السكك الأميركي" (American Railroad)، وهو جزء من مبادرة متعددة الإسهامات والمشاريع، تشمل إنشاء متحفٍ وإنتاج بودكاست، أطلقتها "طريق الحرير" بهدف إعادة قراءة تاريخ تأسيس شبكة الخطوط الحديدية في الولايات المتحدة الأميركية، ليس من منظور الإشادة بالمُنشأ المُنجَز وبأهميّته الوطنيّة، بل من منظور الإضاءة على أولئك الكادحين المجهولين، الذين كان لهم الفضل ببذل العرق والدمع والدم في سبيل شقّ الطرق ومدّ السكك عبر البلاد. وعليه، النظر إليهم، على تنوّع انتماءاتهم العرقية والثقافية، باعتبارهم طبقة عمّالية، تعرضت لتغييبٍ عن المروية الأميركية الكبرى.
خلافاً لما يغلب توقّعه من عملٍ موسيقي مناهضٍ للتغييب، غرضه إحياء ذكرى المهاجرين الذين بنوا الخطوط الحديدية الأميركية، وإعادة الاعتبار لهم عبر الاحتفاء بإرثهم الثقافي اللامادي، يكاد محتوى الألبوم أن يكون محض موسيقى آلية تجريبية مع عناصر غنائية، أكثر منه سجلّاً أرشيفيّاً مباشراً، ينقّب عن أغانٍ ورقصات ذات صلة تاريخية، إما لارتباطها المباشر بسيرورة مدّ الخطوط الحديدية، أو لقيمتها الثقافية التمثيلية (Representation).
بذلك، يسود موسيقاه النهج التأليفي والتصميمي، فيتناهى من خلال تراكاته أشبه بمختبرٍ جماليٍّ لإجراء تجارب مزجٍ ودمجٍ لأصواتٍ آلية غالباً، وبشرية أحياناً، مع الإمكانية عند حسن الإصغاء، في تعقّب الآثار الفولكلوريّة الدالة على الهويات المختلفة، والعائدة للمُحياة ذكراهم، أكانت أفريقية، آسيوية صينية أم أوروبية أيرلندية.
بهذا، لا يخرج الإصدار عن النهج التقليدي لإصدارات موسيقى "الكروس أوڤر" بنسختها الأكثر نخبوية، إذ تُصمّم أطر توزيعية بسيطة، تسير على المنهج المينيمالي (Minimalism)، يُستهلّ بعضها بمقاطع غنائية أو ترانيم، تُتيح المجال أمام الآلات المتعددة لكي تنفرد بمداخلاتٍ ارتجالية الطابع، تعرض من خلالها هويّاتها التمثيلية، فيما تنتشر على طول مُدّة التراك نقاط عبور نغمية وانتقالات إيقاعية، تربط الأجزاء، تُسخّن الأجواء أو تبرّدها، فتبقي على الأسماع منتبهة ومشدودة.
ذلك ما عدا التراك الثاني، الذي يبدو الأكثر ارتباطاً مباشراً بقصة الألبوم، إذ يستعيد أغنية شعبية معروفة باسم "نفق سوانّانوا" (Swannanoa Tunnel) تعود إلى القرن التاسع عشر، غنّاها سجناء من الأميركيين السود، محكومون بالأشغال الشاقة، استأجرهم القيّمون على المشروع من سجّانيهم، من أجل حفر نفقٍ تمرّ فيه سكّة حديد داخل جبلٍ في ولاية كارولينا الشمالية، تحت ظروف غير إنسانية، انتهت بمأساة انهياره، وطمره للمئات منهم أحياءً، ليقضوا نحبهم من دون أن يبقى لهم أثرٌ، أو تقام لهم مراسم دفن وتأبين.
تؤدي غيدنز بصوتها المقطع الغنائي من "نفق سوانّانوا" مستفيدة من دربتها على كلّ من الجاز والبلوز، إضافة إلى الغناء الأوبرالي وفي الوقت نفسه، تصاحب نفسها على آلة الكمان الشعبي. في الخلفية، تضرب مجموعة من الآلات الإيقاعية متنوعة الخلفيات الثقافية جماعياً وبإيقاع مهيب منتظم، في مسعى لإيحاء بصوت ضرب الصخر بالفأس.
في المقطع الثاني من التراك، تكتفي غيدنز بآلة الكمان لتنتقل إلى العزف على إيقاعٍ حيوي سريع، تصاحبها بصورة رئيسية آلة الطبلا الإيقاعية الهندية، استلهاماً للسرعة العجيبة في استعمال المطرقة، التي تُنسب إلى بطل الأسطورة الشعبية جون هنري (John Henry) المُلقّب بسوّاق الفولاذ، وهو أميركي أفريقي، كانت قد أوكلت له مهمة شاقة خطرة، بأن يدكّ أزاميل داخل الجبال، ليتم حشوها بالمتفجّرات، بغية تفتيت صخورها، فيسهل شقُّ الأنفاق فيها؛ إذ يُحكى أنه تمكن في طرقه الصخر، من أن يسبق آلة الحفر التي تعمل على الطاقة البخارية، إلى أن توقّف قلبه، فقضى نحبه، يحمل مطرقته بيده.
بانكفائه عن البوتقة الكبيرة، أي العالم بأسره، واكتفائه ببوتقة أصغر، ألا وهي الولايات المتحدة الأميركية، يبدو مشروع "طريق الحرير" الفنيّ، من خلال إطلاقه، مبادرة تهدف إلى التنقيب عن سجلّ أميركا في استغلالها المهاجرين إليها، كأنه ينسجم مع خطاب الهويّاتية السياسية السائد ضمن المجال الثقافي والأكاديمي الغربي في العقدين الماضيين، على الأخص لدى أوساط اليسار التقدمي، إذ تُركَّز الإضاءة على أشكال التمييز والتهميش، الذي تعرضت له، ولا تزال فئاتٌ عرقية ثقافية ضمن المجتمع.
فالمشاريع الفنية المفاهيمية والنخبوية التي لا تتوسّم الربح، إنما تحتاج إلى دعم المؤسسات الثقافية، التي لا تزال تميل في معظمها إلى خطاب يسار الحزب الديمقراطي، فضلاً عن أن يوتوبيا "العولمة" ما بين الألفيّتين، باستحالة العالم قرية صغيرة يعمّها السلام، تسودها الديمقراطية، وتُزهر بفضل التجارة الحرة، بدأت تنحسر، مقابل انعزالية محليّة أخذت تنتشر بين الديمقراطيين والجمهوريين على حدٍّ سواء.