إنّها دورة العودة إلى الصالات السينمائية. وصفٌ يتطابق وواقع تنظيم دورة جديدة لـ"أيام بيروت السينمائية"، بعد غيابٍ واقعي، بسبب تفشّي وباء كورونا. أزمات البلد خانقة، فالانهيار عظيم، وغير مسبوق. لكنّ السينما أجمل من أنْ تنكسر أمام موتٍ، يصنعه ناهبون وفاسدون وقتلة. رغم هذه الأزمات، تريد "جمعية بيروت دي سي" خروجاً "آمناً" من بؤسٍ وخرابٍ، والسينما أقدر على خروجٍ كهذا.
الدورة الـ11 تُقام بين 10 و19 يونيو/ حزيران 2022. الأمكنة موزّعة في بيروت وخارجها. هناك صالات جاهزة، ومنصّة "أفلامنا"، للجمعية نفسها، تُشارك في مهرجانٍ، ينبثق تأسيسُه من اهتمام والتزام كبيرين بسينما عربية مستقلّة، تُنتج ـ أقلّه في الأعوام الـ20 الأخيرة ـ أفلاماً تتناول أسئلةَ حياةٍ وارتباكات وانشغالات ووقائع، مستعينة بأدوات سينمائية باهرة، غالباً، رغم قسوة النصّ والحكاية والخراب.
الإطار العام غير مُتبدّل: أفلام عربية حديثة الإنتاج، وأخرى مستلّة من ذاكرة سينمائية لبنانية، متمثّلة بالسينما البديلة، مع جوسلين صعب (رسالة من بيروت، 1978)، ومارون بغدادي ("حنين"، 1980؛ و"حروب صغيرة"، 1981)، وبرهان علوية (بيروت اللقاء، 1982). تزامناً مع الدورة الجديدة، تعرض منصّة "أفلامنا" إنتاجات أحدث، ترتبط بأحوال بلدٍ وأفراد، وتستلّ شيئاً من تاريخٍ وذاكرة، فتنبش في خفاياهما بعض المخبّأ قصداً، لتبيان ما فيه من تأثيراتٍ واختبارات. المنصّة تدعو مُشاهديها إلى رحلةٍ سينمائية تعكس، بتنوّعِ نصٍ واشتغال، حيوية إنتاجٍ سينمائي محلي، وجمالية صُوَر وأساليب معاينة، وبعضها ينبش في الشخصيّ/العائليّ، لتوثيق لحظةٍ من زمنٍ، أو انفعالٍ في ذات.
مع "أفلامنا" (aflamuna.online)، يُشَاهَد ـ بين 2 و29 يونيو/ حزيران 2022، "لي قبورٌ في هذه الأرض" (2014) لرين متري، و"بيني وبينك... بيروت" (1994) لديما الجندي، و"في هذا البيت" (2005) لأكرم زعتري، و"بصحّة أمانينا" (2020) لربيع مروّة، و"أسرار حميمة، أبي ما زال شيوعياً" (2011) لأحمد غصين، و"زهرة الليمون" (2006) لباميلا غنيمة، و"القطاع صفر" (2011) لنديم مشلاوي، و"تشويش" (2017) لفيروز سرحال، بالإضافة إلى فيملي بغدادي.
دعوة مخرجات ومخرجين عرب لنقاش مع مشاهدين راغبين في تفاعل أكبر مع النتاجات وصانعيها؛ وحفلة موسيقية لريما خشيش (أغنيات كلاسيكية مصرية لليلى مراد وهدى سلطان وصباح وشادية وسعاد حسني)، تختم الدورة الجديدة (مسرح المدينة، بيروت)؛ جزءٌ من الاحتفاء بتلك السينما العربية. هناك أيضاً معرض "في هذا المكان ـ شرائط لوسط بيروت"، يُفتتح في 11 يونيو/حزيران 2022 في "مركز مينا للصورة" (وسط المدينة): عبر الفيديو والصُور، يتنقّل (المعرض) بين أمكنةٍ عدّة في وسط مدينة بيروت، بين عامي 1935 و1975، أي عشية اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990).
الأفلام المختارة (beirutdc.org/ayam) تكشف جديداً يُثير اهتماماً ومتابعة ومتعةً، رغم ما تُقدِّمه من أهوالٍ وقلاقل وخيبات وانكسارات: يستعيد "فرحة" (2021)، للأردنيّة دارين ج. سلّام (الافتتاح)، لحظة النكبة الفلسطينية (1948)، عبر حكاية المُراهِقة فرحة، التي تعاين الحاصل خارج القبو المختبئة فيه، بانتظار عودة والدها من الحرب، عبر ثقوبٍ وأصواتٍ وأحاسيس واختبارات. "الغريب" (2021)، للسوري أمير فخر الدين، يذهب إلى الجولان المحتلّ ليكشف انزلاق فردٍ في متاهة الألم الروحي والتمزّق الداخلي والارتباك النفسي، في تفاصيل يومية عن بيئة وأناسٍ، وفي المشهد حربٌ سورية، وهاربٌ منها إلى حتْفِه. الوثائقيان اللبنانيان "إعادة تدمير" (2021) لسيمون الهبر و"أخطبوط" (2021) لكريم قاسم يُعانيان، بأسلوبين يختلف أحدهما عن الآخر كلّياً، الحاصل بعد الانفجار المزدوج لمرفأ بيروت (4 أغسطس/آب 2020)، بكشفهما أهوالاً تتخطّى الظاهر، فتخترق روحاً وذاتاً وتبدّلات آنيّة، يُسرف "إعادة تدمير" في قراءتها، وبعض القراءة عائدٌ إلى تاريخ مدينة؛ بينما ينصرف "أخطبوط"، بصمتٍ يتمثّل بغياب أي حوار أو كلام، إلى قوّة الصدمة والخراب في نفوسٍ وأبنية.
"ريش" (2021)، للمصري عمر الزهيري، يغوص في قاع اجتماعٍ مصري، يعمّه فقرٌ وارتباكاتٌ عائلية وحياتية، ويكشف شيئاً من بؤس عيشٍ ومآزق أناسٍ يغرقون، لحظةً تلو أخرى، في هاوية خرابٍ وانكسار. بينما "النهر" (2021)، للّبناني غسان سلهب، يروي حكاية ثنائيّ يلتقيان في مطعمٍ، ثم يتجوّلان في غابةٍ، ويحكيان ـ قليلاً ـ ما يُبيِّن معالم علاقتهما ومساراهما وأقدارهما.
هذه نماذج. اللائحة مليئة بأفلامٍ مُثيرة للانتباه. أسئلتها، البصرية والدرامية والجمالية، تحرِّض على معاينة أدقّ لأحوال وأفراد.