يشتم أبي كعادته خدمات هذا البلد، بينما تتحول شاشة التلفاز إلى صفحة سوداء عند نزول الأمطار في لبنان. يتساءل، من دون جدوى، عما إذا كان الوضع سيبدو هكذا عند حلول كأس العالم، فالمونديال ليس فصلاً سنوياً يكرهه كما الشتاء، إنه حدث الكوكب الذي ينتظره، مع أنّ مهمة تلفاز بيتنا اليومية فرجتنا على المباريات من قدم وسلة وتنس، وقليل من نشرات الأخبار… وأحوال الطقس.
لا أتذكر متى وكيف تكوّن هذا الشغف، فذلك فعل يومي نشأنا عليه وإن لم نكن ندري. وها هو يتحوّل اليوم ملاذاً مخلصاً من كل الأزمات. أتذكر كيف كنا أنا وأخواتي وأخي نتسابق لإتمام واجباتنا المدرسية كل ثلاثاء وأربعاء، حتى نحظى بهدية مشاهدة مباريات دوري أبطال أوروبا متى شفعت لنا ماما، بدل أن نسترق السمع لنشيد البطولة الأيقونة من شق صغير بين بابي غرفة نومنا.
ما زالت كلمات ابن الجيران عالقة في ذاكرتي، بينما يدل على بيتنا مميّزاً إياه بأنه مصدر الصراخ والتصفيق إذا ما كانت هناك مباراة. لكن الذاكرة تخونني بحدة وأنا في الثلاثينيات عند استرجاع شريط المونديال، ما عدت أذكر كثيراً آخر النسخ، ماذا كنت أفعل في مونديال 2014؟
لعل أول عهدي مع المونديال لقطات معدودة طبعت في ذاكرتي عندما كنت طفلة صغيرة في 1994، حينها انقسم منزلنا بين ضيوف لا أتذكرهم، جلسوا على أريكة يشجعون هولندا في ربع النهائي، بينما اصطفّ على الأريكة المقابلة لهم مشجعو البرازيل. غير أنّ نسخة "وكا وكا" 2010 وفوفوزيلا أفريقيا التي تخيلناها مزعجة سمعياً كانت الأجمل، ربما لأنها تزامنت مع أيامنا التي نعيها في الجامعة، ومحت معاناة نسخة 2006 وتزامنها مع حرب يوليو/تموز، أو ربما لأنها النسخة التي انتصر فيها منتخب شجعته، لا منتخب سرت على درب السائرين في تشجيعه، وإن خسر بينما كنت طفلة في نسخة 1998. أنا اخترته هذه المرة، كما اخترت طريقي.
لم يجبرنا والدي على تشجيع منتخب بعينه، لكنني ما فتئت أسعى إلى الخروج من عباءته وتكوين خطي في الحياة من أكبر خيار حتى الفريق الذي أشجعه. إلا أنني اليوم فقط أقف صامتة أمام ما أيقنت وما أظهرته لنا دورة الأيام. في لبنان يولد المرء على الفطرة فأبواه إما "يبرزلانه" أو "يؤلمنانه"، الحمد لله أنه جمعنا وأبي كره منتخب الطليان! (أعتذر من أصدقائي مشجعي إيطاليا. بالمناسبة، هل تشجعونهم لجمالهم، أم أنّ هذه الصورة النمطية فقط تلصقونها بالنساء؟). لطالما أحببت الدوري الإنكليزي، وحاولت تشجيع منتخب إنكلترا من هذا المنطلق، وكي أميّز نفسي عن خيارات العائلة التي تشجع البرازيل كما الوالد إذاً.
اليوم فقط أدركت لماذا يرجع والدي إلى ذكرى مشاهدته الأسطورة بيليه هنا في لبنان في إبريل/ نيسان 1975، وما شكّلته له تلك اللحظة. لعل ذاكرتي على خطاه أيضاً في استعادة الأحداث البعيدة التي عنت له شيئاً، بينما ذاكرته القريبة مثلي حدّث ولا حرج.
غير أنني في الصغر، ما وجدت ضالة الفوز عند الأسود الثلاثة، أهكذا يتخلى المرء عن أحلامه إذا لم تؤت أكلها؟ وتعاطفت منذ مونديال 2002 مع منتخب إسبانيا حيث ودّع ربع النهائي "مظلوماً" في نظري أمام كوريا الجنوبية، قبل أن يصنع مجد الانتصارات لاحقاً.
في 2010 اختلف المونديال، وإن بتنا مطالبين بدفع مقابل مادي لقاء ما يمتعنا، فبات الاشتراك بالقنوات الرياضية حتمياً، بعدما كنا نشاهد المباريات على التلفزيون الرسمي، وأحياناً على شاشة صغيرة تسعفها بطارية سيارة، عند شاطئ البحر في ليلة صيفية.
في المونديال ذاك باتت الشاشة عملاقة في ملعب كرة السلة تحت بيتنا الجبلي، والشريط المشبوك هو من شرفتنا على الطابق الأول، فمعلوم أنّ عائلتنا ستشاهد حتماً المباراة ولا ضير لو نقلنا ما نشاهد إلى جمهور الجالسين في الأسفل. أما المباراة التي اجتمع الجيران لحضورها فهي لألمانيا والأرجنتين في ربع النهائي، العدوين اللدودين لسامبا بابا. أتذكر صرخات هؤلاء بينما غيّر بابا القناة وسط المباراة المشتعلة، إلى خطاب زعيم سياسي، بينما أنهى المشاكسة بقناة أطفال كريهة أغانيها، غامزاً من قناتهم بأنّهم "كلهم أطفال أمام السيليساو" كما يبرر مبتسماً.
كانت دوماً وما زالت المتعة حاضرة عند مشاهدة كرة القدم مع والدي، وإن حاولت تجربة حضورها مع الأصدقاء. اليوم وبينما نكبر وبات النجوم الذين أحببناهم مدربين ومحللين ومعتزلين، لا أريد لهذه المتعة أن تنتهي، وبت أستمتع بشتائم والدي لهذا اللاعب وذاك، للحكم، للمعلّق... وأنسى أحداث المباراة.
انطلق كأس العالم 2022، ولم يشفع مرض والدتي هذه المرة لي ولوالدي بمشاهدته حضورياً لأول مرة في بلد عربي، فالواقع يغلبنا بالأولويات، ولن أعارك أصدقائي بينما بات جلّهم في عداد المغتربين. سأتحلّق مع منْ بقي من عائلتي ممن لم يهاجر حول المدفئة، بينما يجلس قطنا أسفلها، ونصنع الذكريات. ما الضير لو كان مختلفاً كما غيره من أمور الحياة؟
تخيلت يوماً نفسي في مكان غريب عن معضلة هذه البلاد ومشاكلها التي تخنقنا ولا تنتهي، بينما أنسج أحلامي بعيداً عن كنف والديّ، واليوم أقصى أمنياتي أن أقضي يومياتي بقربهما في مدينتا المكسورة وألا تنقضي هذه اللحظات.