ماكس ريختر... "أصوات" الأنفاس الأخيرة للغرب

09 مايو 2021
تبتعد أعماله عن الملحمية وتقارب التقليلية (Getty)
+ الخط -

إشارة جنائزية، تُطلقها جوقة ملائكية، يستهلّ بها الموسيقي الألماني - البريطاني ماكس ريختر Max Richter إصداره الأخير المعنون بـ "أصوات" Voices. يعقبها حفيفٌ يصدر عن أسطوانة أو شريط عفى عليه الزمن، ثم صوت السيدة الأولى إليونور، زوجة الرئيس الأميركي الراحل فرانكلن روزفلت، وهي تتلو سنة 1949 الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

ليست تلك بمقدمة مألوفة لألبوم موسيقي. إلا أنها تستجيب، من دون شك، لمزاج التشاؤم العام الذي أمسى منذ أول القرن الحالي صوت الأرض العالي، والذي زاد في علوّه حدّاً بلغ به كل الأسماع، خصوصاً بعد أن اجتاح طاعون الألفية الثالثة (كوفيد-19) الأصقاع، يحصد أرواح الملايين، ويحتجز الملايين الباقية رهائن إما على أسرّة المستشفيات أو داخل جدران المنازل.

يستمر الألبوم في عرض مواد الإعلان لمدة تقترب من الساعة. يُسمع بصوت الممثلة كيكي لين KiKi Layne مشبوكاً بتلاوات متعددة وبلغات مختلفة. في تعارض متعمّد، تُقابل التلاوة المسجّلة بنبرتها التفاؤلية ومتنها الطوباوي، قاعاً موسيقية شديدة القتامة، بجهارة ثلاث عشرة آلة كونتراباص واثنتين وعشرين من التشيلو. ثمة شعاعُ نورٍ وحيد في العتمة، يصدر عن آلة كمان منفرد، إضافةً إلى مفاتيح آلة بيانو تبرق كل حين، وجوقة ترتّل أنغاماً بلا كلمات، تُضفي المزيد من الكآبة على الأجواء الرثائية. 

إنتاج ريختر الجديد، بالشكل الفني والمضمون الفكري، كأنما يجمع جملة انكفاءات يختبرها الغرب اليورو - الأميركي، الذي سعى على مدى القرون الخمسة الماضية، بقوة دفع إمبراطورياته الاستعمارية المتعاصرة والمتعاقبة، إلى تحديد وجهة البشرية العلمية والفكرية والثقافية، انطلاقاً مما أطلق عليه المفكر الألماني، سوري الأصل، بسام طيبي "الحضارة القائدة" Leitkultur وذلك في معرض كتابه المثير للجدل الصادر سنة 1989 بعنوان "أوروبا بلا هوية" (Europa Ohne Identität).

أحد تلك الانكفاءات موسيقيّ، يتمثل بالعزوف عن الملحمية، وشيوع الأسلوب "المينيمالي" (التقليلي) Minimalism في الكتابة الموسيقية. إذ به، تؤلَّف الموسيقى على شكل موضوعات موجزة مقتضبة تُعالج بتكرارها وإدارتها خطيّاً، من دون تطويرها درامياً كما جرى في الماضي، حين كانت الألحان تبلغ ذروة مركزية أو مجموعة من الذُرى، ثم تنحلّ في صورة خلاص طُهراني. 

جمالياً، تعكس المينيمالية حقبة، أخذت الموسيقى فيها تلعب أكثر فأكثر دوراً خلفياً مصاحباً، سواءً للسينما والتلفزيون، أو حتى ألعاب الفيديو. من زاوية أكثر انفراجاً، تبدو المينيمالية تقليعة أعم رواجاً، لها أثرها في العمارة والتصميم الداخلي وحتى في الأدب. لا بل إنها غدت نمطاً في الحياة، فالجيل الجديد، الغربي على وجه التحديد، بات يباهي في قلة ما يأكل ويشرب ويقتني من لباس وأثاث.

مينيمالية ريختر ميّزت مجمل أعماله، ولا سيما العمل الأخير، والتي تُسمى مرّات "ما بعد المينيمالية" (Post Minimalism)، لا لكونها تشكل قطيعة مع التيار التقليلي التقليدي، وإنما لكونها استمراراً له وبناءً عليه، بإكسابه طابعاً دينياً رهبانياً يُحيل الموسيقى الأوروبية إلى مرحلتها القروسطية، حيث الموضوعات تشبه في شكلها المقتصد، نغمها المقامي، ونمطها التكراري طقوس الترتيل، والقوالب الموسيقية المنبثقة عنها.

لعلّ في ذلك انكفاءً آخر، ذا بعدٍ فلسفي، يفترق عن سابق عهدٍ، تبوّأ فيه الأوروبي، الإنسان الفرد، برجاحة عقله وجنونه، بفرحته وتعاسته، بنجاحاته وإخفاقاته، بإشراقاته ومعاناته، المتن في الفن، ومحور السردية ووجهة الحدث. أما الموسيقى المينيمالية، أكانت ميكانيكية الطابع، إلكترونية الإيحاء مثل تلك التي أنتجها رواد مدينة نيويورك الأميركية في الربع الأخير من القرن العشرين، مثل فيليب غلاس Philip Glass وستيف رايش Stefen Reich، أو في تحولها المسيحي أو الشاماني بعد الحرب الباردة، كالتي للأستوني آرفو بيارت Arvo Pärt لم تعد تسعى لتجسيد اليقيني، وإنّما تكتفي برصد الميتافيزيقي المجهول، المادي أو الروحاني.

كما لو أنّ الانكفاء المينيمالي انعكاسٌ لانكفاء أعمق، أخذ يطرأ على حال المركزية الغربية ككل، ونظرتها إلى ذاتها وإلى دورها في العالم. سواءً تلك المتمثلة بسطوة الهيمنة العسكرية، أمثولة التعددية السياسية، أو أنموذج النجاعة الاقتصادية، القائمة على الاستهلاك حدّ الإسراف، والحرية المطلقة للصناعة والتجارة، والثقة العمياء بالنمو المضطرد لرأس المال.

أو تلك المظاهر الأقل عنجهية، كالتغني بقيم العالمية والكونية، وتبني التعددية الثقافية، والنظر بعين الرأفة والعطف، المقترن أحياناً، وإن بحسب المصلحة السياسية غالباً، بالمؤازرة والدعم لمجتمعات المستعمرات السابقة، انطلاقاً مما بات يُعرف بـ "وزر الرجل الأبيض" (The White Man’s Burden) وشعوره بمسؤولية حصرية، لا تخلو من نرجسية مخفية، إزاء تاريخ حديث، قُدَّر له أن يكتب معظم فصوله، المُشرقة منها والمعتمة.

انكفاءٌ متعدد الأوجه، يمثّل، إذن، صدى حال ثقافة باتت في مأزق تاريخي، أو على الأقل نقطة عبور تستدعي التأمل والتفكّر، تعتكفُ داخل محرابها المينيمالي، أقرب إلى معبد بوذيّ "يهو - مسيحي"، ذي طراز عصري غربي، أملاً باستنارة عاجلة حيال تساؤلات كُبرى: ترى، هل ما زال الغرب اليوم في موقع الصدارة، أم أنّ العالم يشهد صعود قوى جديدة، لها رؤيتها وفلسفتها ونهجها في السياسة والاقتصاد والمجتمع، وأسلوبها في بسط النفوذ، أو اقتسامه، حول العالم.

هل إعلان حقوق الإنسان، كما تلته السيدة الأميركية الأولى منذ أكثر من نصف قرن، لسان حال الجميع؟ هل يؤمن حقاً بالإنسان على اختلاف جنسه ولونه ودينه، أم أنّ الخطاب الأممي، كما نظّر له مفكرو التنوير الأوروبي منذ القرن الثامن والتاسع عشر، إنما هو في التاريخ وعلى الخارطة حكرٌ على الرجل الأبيض الأوروبي والأميركي، وعليه، بات يعيش اليوم حالاً من تناقض، قد يؤول إلى صدام بواقع التنوع العرقي والديني، سواءً داخل المجتمعات الغربية ذاتها، أو خارجها؟

هل كشفت كلّ من الأزمة المالية لعام 2008 ومن ثم الجائحة العالمية الراهنة، عن عيوب بنيوية في النظام الديمقراطي الليبرالي الغربي؟ من غيابٍ مشين للعدالة الاجتماعية، وعجز مزمن عن صناعة إجماع محلي، إقليمي أو دولي، بهدف التوحّد في وجه الأزمات والكوارث، وهل المجتمعات الغربية مُمثلة بمؤسسات الدولة وأجهزتها الإدارية باتت مُمتثلةً لإرادات الشركات الكبرى ومديريها التنفيذيين؟ والكلام عن خطر الانزلاق نحو الانشقاق الهويّاتي ثم الاحتراب، أو النقوص إلى الفاشية وأنماط الدولة السلطوية لم يعد عبثاً؟

من بين كلّ تلك الانكفاءات، الشكلي منها والموضوعي، ثمة اندفاع ملحوظ للفنان. هو الآن يُحسّ أكثر من أي زمن مضى، بضرورة تجرّع فنه للقضايا السياسية، وتحميل منتجه الإبداعي مضامين تخرج عن نطاق التعبير عن الذات ورفاهية التمحور حولها، ليتوجه بخطاب مباشر يعكس قلق الإنسان المعاصر، مُنذراً بخطر الإذعان لفقدان الأمل وعدم الاكتراث. لعلّ ذلك ما قد سعى ماكس ريختر إليه، عبر إصداره الجديد؛ انكفاءٌ أسلوبي أتقنه وتعوّد عليه، لدرجة تدعو للسأم. مينيمالية تُبقي على الأنغام تدور كأسطوانة في الخلفية، مُفسحةً الفضاء أمام إلحاح الأصوات الفعلية.

المساهمون